05-نوفمبر-2023
غزة

(تركيب: الترا جزائر)

لم تكن تتوقع الأربعينية الغزاوية، خضر أُلفت، أو المعروفة بلقب "أم يوسف"، أن تكون زيارتها لبيت أهلها وعائلة زوجها بقطاع غزة شهر حزيران/جوان الماضي، آخرة مرة تلتقي فيها شقيقها محمّد وزوجته وأبناءه المستشهدين في قصف مخيم جباليا شمال شرق القطاع، هذه العملية اللاإنسانية التي نفذّها المستعمر الصهيوني خلال الأيام (الأسابيع) الأخيرة.

أم يوسف لـ"الترا جزائر": أصعب اللحظات في حياتي أعيشها منذ بدء العدوان الغاشم على غزة ولا أنام قبل الاطمئنان على عائلتي هناك

تبكي أم يوسف، المقيمة رفقة زوجها بالجزائر منذ 2013، وتروي بحُرقة لـ"الترا جزائر" بالتفاصيل، كيف تُعايش عن بعد 8 آلاف كيلومتر، القصف والاعتداءات التي يتعرض لها الغزاويين العُزل منذ تاريخ السابع تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ولسان حالها يقول: "لا نملك غير الدعاء."

بانر

تقول السيّدة أُلفت (42 سنة)، وهي المتزوجة من فلسطيني يشتغل أستاذًا للغة العربية في الجزائر، إنّها لم تتنقّل إلى غزة لزيارة أهلها ولو لمرة واحدة (منذ 2013)، بسبب صعوبة الدخول إلى القطاع نتيجة غلق معبر رفح في كل مرة.

وكانت المحاولة الوحيدة التي دخلت خلالها القطاع شهر حزيران/جوان المنصرم، حيث زارت والديها وأخواتها البنات الثلاث وأبناءهم وإخوتها الذكور الأربعة وزوجاتهم وأبناءهم، وأصهارها وعائلة زوجها، لم يكن الوقت كافيًا لتلتقي أم يوسف الجميع، حيث لم تتجاوز فترة إقامتها هناك 15 يومًا، قضتها كلها في محاولة تفقد أوضاع العائلة والجيران والأهل والأحباب.

حضرت خلال تلك الفترة القصيرة الأعراس والزيارات والسمر العائلي، وكأن شيئًا ما كان يُخبِرها أنها ستكون آخر مرة ترى فيها بعض الوجوه.

خلال تلك الليالي عايشت أيضًا أم يوسف بعض الاعتداءات البسيطة والمناوشات، تقول: "أنا أعرف الصهاينة منذ أن كنت فتاة صغيرة، وأُدرك الشر والحقد الذي يُكِنونه لنا"، مضيفة: "في زيارتي الأخيرة لعائلتي الصائفة الماضية رأيت بأم عيني المناوشات التي نتعرّض لها يوميًا بحكم أننا نقيم في منطقة حدودية جبلية عسكرية".

وأردفت المتحدثة: "خلال عقود من الزمن فقدت نصف عائلة والدي ووالدتي، كلهم رحلوا شُهداء في الحرب، لن نسامح الاحتلال ولن نرض بأقل من الحرية والاستقلال الكامل".

7 أكتوبر.. الله أكبر

تستذكر أُلفت فجر السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وهي تتلقى مكالمة تُبشّرها بعملية "طوفان الأقصى"، لتكمل: "كبّرت الله في تلك اللحظة، سُرِرت كثيرًا بالخبر، وفي نفس الوقت همست لزوجي قائلة بأن الأمر لن يمُرّ بسلام"..، تبكي قليلًا لتضيف: "إلّا أنني لم أتوقع كل هذه المجازر والدموية، لم أكن أنتظر إبادة جماعية وإنهاء الحياة بقطاع غزة".

تواصل أم يوسف حديثها المتقطّع ألمًا: "تحدثت يومها مع عائلتي عبر الواتساب، أخبروني أن الأمور عادية، بعدها بدقائق أطلعوني أن طائرات العدو تحلق فوق رؤوسهم، وترمي منشورات، كُتِب عليها ضرورة مغادرة القطاع".

كان ذلك في حدود الساعة العاشرة صباحًا من يوم 8الثامن تشرين الأول/أكتوبر الماضي، تجزم أمّ الطفلين يوسف وعماد (9 و7 سنوات): "أمضيت اليوم قلقة وأشعر بالكثير من الضغط، أحاول التواصل عبر الإنترنيت مع أهلي، تمكنت من ذلك مساء نفس اليوم، حيث تحدثت مع أبي المصاب بالسكري، صاحب الـ73 سنة، وأمي التي تبلغ من العمر 70 سنة عبر الواتساب وأبلغوني أنهم بصدد الانتقال إلى مخيم جباليا الذي يظلُّ أكثر أمنا."

وتواصل: "في ذلك المخيّم كانت تقيم أخواتي البنات مع والدي، أمّا إخوتي الذكور فأقاموا عند أصهارهم، وكان جميعهم موجودين ضمن نفس المربع السكني، أي قريبون جدًا من أهلي".

وتشدد محدّثة "الترا جزائر" أنّها "حاولت التواصل معهم عبر الفيديو إلّا أني فشلت في ذلك بسبب رداءة شبكة الإنترنيت".

في تلك الفترة عايشت أم يوسف أسوأ مشاعر الرعب والخوف والقلق والوسواس، قائلة: "كل يوم أشعر بنفس الإحساس، ضغطٌ كبيرٌ وأرقٌ في الليل، أتابع بلهفة كل ما ينشر في صفحات التواصل الاجتماعي والهاتف لا يفارقني أتفقده كلّ وهلة، كلّ رسالة أرسلها أنتظر ساعات لأتلقى الرّد وأحيانًا ألمح أنهم استلموا الرسالة وقرأوها ولم يردوا علي، هناك تنتابني الشكوك والقلق وأدخل دوامة من الفزع، فلا أجِدُ من مَنْفَذٍ إلّا الدعاء والاستغفار".

قطع الاتصال عن غزة.. يومٌ فارق

اليوم الفارق في حياتي كان يوم قطع الاتصال عن غزة، تابعت الخبر عبر شاشة التلفاز، أُصِبت بشلل من هول الصدمة، أصبحت عاجزة عن التحرك، كان الإنترنت المنفذ الوحيد لتقصي أخبار عائلتي، وكانت أصعب اللحظات يوم الإثنين الـ30 من شهر تشرين الأول/أكتوبر. كنت صائمة، طيلة اليوم لم أتلق أية رسالة، عندما هممت بالإفطار مع أذان المغرب، أحسست بضيق في التنفس، لمحت في الهاتف، منشورًا لأحد أصهارنا اِسمه علي، كتب: "الحمد لله تم القصف لكن سلامات".

"أصبت بفزع أكبر- تسترسل السيّدة الغزاوية- وبعثت وقتها رسائل لأفراد عائلتي للاطلاع على الوضع، وجدت ابنة أخي على الخط، اسمها مريم سألتها عن الأخبار فلم ترد.

تواصل أم يوسف الحديث: "اشتد قلقي قمت بإرسال رسالة لقريبي علي، ردّ بعد نصف ساعة بأنّ عائلتي "بخير.. الحمد لله"، لكني لم أكن مرتاحة".

أخي شهيد

شدّدت أُلفت على مراسلة مريم، وردت بعد ساعات بالقول: "محمّد راح"، أي استشهد. تضيف قائلة: "لكن عائلتي تضم الكثير ممن اسمهم محمّد ، سألتها: "من محمّد ؟" فأجابتني أنه محمّد  أخي الأكبر، المهندس صاحب الـ43 سنة، استشهد هو وزوجته وطِفلاه، تحت قصفٍ صاروخيٍ لإقامته بمخيم جباليا".

تواصل أم يوسف كلامها والدموع تنهمر على وجنتيها الشاحبتين "محمّد ذهب ذلك اليوم عند أخته وأخذ حمامه، أخذ ملابس نومه لبيت زوجته، التي لا تبعد كثيرًا عن بيت أهلنا، بمجرد دخوله المنزل قصفوا المكان الذي كان يضم 38 شخصًا، كُلهم استشهدوا بما فيهم أخي وأولاده وزوجته، وكل العائلة".

أخي وعائلته ارتقوا شُهداء رفقة أزيد من 30 آخرين في مجزرة جباليا الأخيرة تحت صواريخ الكيان الصهيوني

تضيف المتحدثة بجأش كبير: "أصبت بصدمة تلك الليلة لم أنم، أحيانًا أبكي وأحيانًا أخرى أتذكر أنهم شهداء، وابناه طيران من طيور الجنة. بقيت على الحال نفسه في اليوم الموالي، حاولت الاتصال بأهلي، وفي مساء الثلاثاء تمكّنت من الحديث مع أمي، كانت تلك أوّل مرة أنجح في مكالمتها منذ بداية قصف المخيم، عزّيتها في وفاة أخي، حيث كانت تبكي وتقول الشهيد لا يُبكى عليه".

"بعد ذلك لم أتمكن من محادثتها إلى يومنا هذا"، تضيف السيّدة أم يوسف.

قلق حيرة وصبر

أما عن يومياتها بولاية البليدة (47 كم شمال العاصمة) فتقول: "أنام نومًا متقطعًا وأستيقظ يوميًا في حدود الساعة الخامسة صباحًا. أُصلّي الفجر وأُمسِك هاتفي في محاولة إيجاد منفذ للتواصل مع عائلتي، عسى أن أتلقى أخبارًا تُطمئِن قلبي، أمّا في الحالات التي لا أتلقَ فيها ردًا، أُمضي يومًا أسودًا حزينًا".

ونحن نُحاوِر أم يوسف، تلقت رسالة من صحفي في غزة أخبرها أنّ المستعمر الغاشم قصف بيت أختها الصغرى، التي تم إنقاذها، في حين يتواجد أبناؤها الثلاث تحت الردوم ويظل زوجها مختفيًا، بعدها بساعات أبلغتنا وهي تعتصر بكاءً أن جميعهم استشهدوا في سبيل الله.

تبكي بحرقة وهي تردّد: "أصعب اللحظات في حياتي أعايشها اليوم.. يا الله"، لتضيف: "قبل يومين قرأت خبر قصف مخيم جباليا للمرة الثانية على قنوات التلفزيون، هي منطقة تواجد عائلتي، أصِبت بالذهول، لم أستطع فعل شيء سوى الدعاء والصلاة في انتظار تلقي خبر ما من غزة، ومساء وصلتني رسالة من إخوتي البنات يخبرنني أن العائلة بخير".

تُضيف ابنة غزّة: "إلى غاية هذه الساعات أواصل الترقب، أتلقى أحيانًا رسائلًا متقطعة وأحيانا أخرى أُطِيل الانتظار دون جدوى"، متمنية أن أكون هناك بقطاع غزة، لأن الاستسلام للأمر الواقع، يختلف عن شعور المغترب الذي يحترق ببطء كل يوم، تقول.

الجزائريون شعبٌ أبي

تُجزم محدثة "الترا جزائر" أنّه "سمِعتُ كثيرًا عن بطولات الجزائريين وحبّ الجزائر لفلسطين، لكن هذا الشعور لامسته بشكل أكبر بمجرد وطأت قدماي الجزائر، لم أشعر بالغُربة طيلة فترة وجودي هنا، هم بمثابة إخوة وأخوات لزوجي، لي ولعائلتي".

وتضيف أم يوسف: "حتى في هذه الظروف الأليمة، لا يفارقني الجزائريون ولو للحظة، يتصلون ويأتون للمنزل، ويبعثون الرسائل"، لتختم: "أطلب منكم جميعًا رفع أكف الدعاء لزوال البلاء عن فلسطين وأن يحفظ الله عائلتي وأن يحتسب من راحوا ضحايا العدوان الغاشم شهداء".