16-يناير-2020

مروان قصّاب باشي/ سوريا

في الانعطافات التاريخية تبرز شخصية المثقّف كموضوع للنقاش، خاصّة إذا غاب دوره في التحوّلات التاريخية لمجتمع ما. اليوم، يزداد الحديث عن دور المثقّفين في تأطير قوّة التغيير التي ينادي بها الشارع، إلاّ أنّ الشيء الجوهري الذي يغيب في كل نقاش هو: هل سنتحدث عن مثقّفين أم عن انتلجنسيا (نخبة)؟

ناقش عمار بلحسن سؤال المثقف من داخل مجال "الأيديولوجيا "، لا بوصفه مفهومًا سياسيًا

يُعدّ كتاب عمار بلحسن، "أنتلجنسيا أم مثقفون في الجزائر؟"، مرجعًا لا غنىً عنه، لإعادة قراءة سؤال المثقّف والنخب في السياق الجزائري.

اقرأ/ي أيضًا: المثقف والسّلطة في الجزائر.. قناع لوجهين

هذا الكتاب، اعتبره بلحسن محاولةً للتفكير في المثقّف، وفي وظيفته وفي مجال نشاطه. وقد اعتبر سنوات الثمانينات، مرحلة مهمّة تميّزت بظهور مفهوم الثقافة والمثقفين كميدان للصراع والجدلية الاجتماعية.

نلاحظ بأن بلحسن، ربط ظهور مفهومي الثقافة والمثقّفين بالصراع الاجتماعي، أي بوصفهما أداتين في هذا الصراع. المثقّف إذن، غير مفصول عن الجدلية الاجتماعية، وهو طرفٌ في إدارة هذا الصراع، ليس فقط على صعيد الإنتاج الرمزي، بل أيضًا بوصفه عضوًا فعالًا داخل مؤسّسات المجتمع، منخرطٌ في الجدالات اليومية، ضدّ أشكال البيروقراطيات والسياسات التي تخلّ بالعدالة والمساواة الاجتماعيتين.

أن تتحوّل الثقافة إلى حقل للصراع الاجتماعي، يعني إنزال المثقّفين من أبراجهم العاجية، وعدم الاكتفاء بمراقبة الصراع من الأعلى؛ فعلاقتهم بالصراعات الاجتماعية هي أيضًا أفقية.

مفهوم الأيديولوجيا ضمن النقاش العام حول المثقف:

ناقش عمار بلحسن سؤال المثقف من داخل مجال "الأيديولوجيا "، لا بوصفه مفهومًا سياسيًا، لكن كمشكلة معرفية؛ فالجوهر في نظره هو التساؤل العلمي عن مضمون الأيديولوجيا وعن شكلها، وكيفية اشتغالها داخل المجتمع. وقد اعتبر الماركسية إحدى أهم المناهج السوسيولوجية التي حاولت فهم هذا المفهوم ضمن مقاربة علمية.

الكاتب الجزائري عمار بلحسن

وضمن المقاربة الماركسية، اتكأ بلحسن على نظرية غرامشي حول الأيديولوجيا، معتبرًا إياها نظرية ثورية، خاصّة في بلورتها لمفهوم المثقّف، الذي أصبح مثقفًا عضويًا.

تكمن أهميّة أطروحة غرامشي، أنّ الأيديولوجيا تتحدّد في التنظيم السياسي والطبقي للجماهير، مرتبطة مع كل التشكيلات الاجتماعية والصراع الطبقي. بحيث يتجلّى الدور الأساسي للمثقّفين في عملية التنظيم والتأطير والإنتاج.

يرى غرامشي، بأنّ الأيديولوجيا تتمظهر في الفلسفة وفي الدين وفي الحسّ المشترك، ثمّ أخيرًا في الفلكلور؛ أمّا بالنسبة للفلسفة فهي تظهر في شكل خطابٍ غير مباشر يتجاوز العيني والراهن، لكنّه يعمل على اكتشاف المصالح التاريخية لطبقة اجتماعية معيّنة ويفرض نظامًا معينًا لها. أما الدين فقد اعتبره مسكونًا بالأيديولوجيا، لأنه يبرّر مصالح طبقة اجتماعية ما. أما بخصوص الحسّ المشترك؛ فيقصد به فلسفة الجماهير العفوية، التي لها أيضًا تصوّرها للعالم، فعلى حدّ تعبير كارل ماركس "تفكير المرء في الكوخ يختلف عنه في القصر". أمّا الشكل الأخير فهو الفلكلور، وقد وصفه غرامشي بالحسّ المشترك المتيبس والمتجمّد.

المثقف عند غرامشي

أشار عمار بلحسن إلى أنّ غرامشي، وهو يبحث في وسائل انتشار الأيديولوجيا في المجتمع، قد أُعجب بالكنيسة الكاثوليكية في قدرتها على التنظيم ونشر أيديولوجيتها الدينية عبر مؤسّساتها المختلفة؛ لقد اعتبرها مؤسسة نموذجية للتأطير المؤسّساتي المنظم، الأمر الذي مكّنها من الانتشار بين فئات المجتمع المختلفة، وقد استعانت بالمدرسة والأحزاب، والنقابات، والكتب والإذاعات المسيحية، طبعًا. فرجالات الدين نجحوا بتنظيمهم في نشر أيديولوجيتهم الدينية.

من هنا، جاء السؤال حول السبيل إلى خلق وعيٍّ ذاتيٍّ وطبقيٍّ لطبقة اجتماعية ما. ويرى غرامشي أن دور النخب المثقفة هو تكوين هذا الوعي.

لقد أعاد غرامشي تعريف المثقّف، مستبعدًا التحديدات المثالية التي أبعدته عن الفضاء الاجتماعي، باسم الاستقلالية تارةً، والانعزال تارةً أخرى. المثقّف الغرامشي هو منتج الوعي الطبقي والنقدي، وبذلك فهو عضوٌ منخرط في مؤسّسات المجتمع.

الكاتب الجزائري عمار بلحسن

من هنا، جاء تعريفه للمثقّف العضوي، على أساس المكانة والوظيفة داخل البنية الاجتماعية، ومكانته ضمن النظام العلائقي داخل المجتمع. يشمل هذا التعريف، إذا كلّ من يمارس عملًا تربويًا وثقافيًا وأخلاقيًا. يكتب بلحسن: "إن العلاقة العضوية هي قبل كلّ شيء وعكس ما سبق، علاقة مُعترف بها، معلنة، منظرة، ومرادة سياسيًا، من أجل الدفاع بطريقة جيّدة عن "التصوّر الجديد للعالم الذي تحمله الطبقة الثورية الصاعدة" (ص38)

أن تكون مثقفًا عضويًا، بهذا المعنى، هو أن تكون مرئيًا، ومعترفًا بك اجتماعيًا. يتحدّث بلحسن عن "الطريقة الجيدة" للدفاع عن التصور الجديد للعالم، بمعنى أن هناك طريقة خاطئة للدفاع عن الطبقة الثورية.

تكمن أهمية كتاب بلحسن أنّه يضع المفاهيم في سياقها المعرفي، بعيدًا عن الطروحات الانطباعية أو الشعبوية، خاصّة وأننا اليوم نشهد ضمورًا حقيقيًا لحضور المثقّف كطرفٍ في التغيير، بعد أن ضاع صوته داخل المهرجانات، أو ظلّ على هامش الفضاء الاجتماعي، إمّا ان يكون جامعيًا غارقًا في النظريات، أو مثقفًا انتهازيًا يسعى خلف الولائم.

يُنبّهنا بلحسن، من خلال استحضار غرامشي إلى أنّ المثقف العضوي، قد يكون أيّ شخصٍ يحمل فكرة ما

يُنبّهنا بلحسن، من خلال استحضار غرامشي إلى أنّ المثقف العضوي، قد يكون أيّ شخصٍ يحمل فكرة ما، فيدافع عنها داخل المؤسّسة التي ينتمي إليها، فليس بالضرورة هو ذلك الشخص الذي يحيط نفسه بمكتبة عامرة بالكتب، يقضي جلّ نهاره في ملاحقة الكلمات، ويناقش في المجرّدات التي لا يفهمها غيره.

اقرأ/ي أيضًا:

المثقف الجزائري والانتخابات.. أسئلة الحراك المفتوحة

ملامح المثقف الجزائري في زمن مضى