13-يوليو-2022
باعة الموز بأحد الأسواق الشعبية بالعاصمة (الصورة: أ.ف.ب)

باعة الموز بأحد الأسواق الشعبية بالعاصمة (الصورة: أ.ف.ب)

ما إن ترتفع أسعار فاكهة الموز تَشتعل مواقع التواصل الاجتماعي، ويَغضب الشارع الجزائري من زيادة أثمانها، الأمر الذي يدفع كثيرين إلى التساؤل عن مَكمن سر هذا الاهتمام والانشغال بفاكهة هي ليست من المواد الأساسية كثيرة الاستهلاك، وتوفّرها طيلة أيام السنة بأثمان متفاوتة.

عُرفت فترة الرئيس الراحل هواري بومدين بندرة المواد الغذائيةوكان النمط الغذائي للجزائريين فقيرًا مقارنة بدول الجوار

 فما هو مصدر هذا الشغف؟ وهل هذا يعود إلى قيمتها الغذائية أم أن استهلاك فاكهة الموز في الواقع واسعة الانتشار؟ أم أن القضية والمسألة مرتبطة بالسياسة والاقتصاد والمهاجرين؟

الموز في قلب السياسة  

في عام 1965، أي مباشرة بعد سيطرة هواري بومدين على السلطة، وفي إطار الأمن الغذائي والثقافي والثورة الزراعية، صدرا قرار بمنع استيراد فاكهة الموز، على اعتبار أن الموز من الفواكه الطازجة البرجوازية، وعنوان نمط غذائي للنظام الرأسمالي، وعلى ضوء ذلك استطاعت الدعاية التي سوقتها "السلطة البروليتارية" من إضفاء طابع إيديولوجي وفئوي عن فاكهة الموز، وأن أيّة رغبة في استهلكه يعد تعلقًا بنمط العيش الرأسمالي.

الموز بداية الانفتاح السياسي

في مقابل ذلك، وفي إطار تفكيك البومدينية (نسبة إلى فترة الرئيس الراحل هواري بومدين)، كان أول ما أقدم عليه الرئيس آنذاك شاذلي بن جديد ، تحرير جزء من التجارة الخارجية، وترخيص استيراد الآلاف من الأطنان من مادة الموز، وفاكهة التفاح والأجبان في إطار مخطط مكافحة الندرة سنة 1980، حيث أُغرقت أسواق الفلاح وقتها بالفاكهة، وكان في اعتقاد النظام السياسي الجديد أن حرمان المواطن الجزائري من الموز كان وراء سخطه من حكم بومدين أو جزء منه.

كانت رغبة الرئيس شاذلي بن جديد تَجسيد نَمط حُكم جديد، قائم على الاستهلاك الواسع، كعنوان لانفتاح سياسي وعالمي وتجسيدًا لشعار "من أجل حياة أفضل".

 لم يباشر شاذلي بن جديد إصلاحات سياسية عميقة ولا تغييرات اقتصادية هيكلية، بل شرع في تنفيذ "مخطط مكافحة الندرة 1980”، عبر تحرير جزء من التجارة الخارجية، الأمر الذي سمح لفترة غير طويلة، بتوفر بعض السلع والخدمات، وتكمنت على الأقل بعض عائلات المتوسطة من الحصول على سيارة جديدة وتلفزيون الملون.

 وفي إطار الدعاية السياسية لصالح النظام السياسي الجديد، تداولت أخبار في الشارع الجزائري مفادها أن كميات الموز المتوفرة تعود بفضل الرئيس شاذلي بن جديد الذي قام باستثمارات ضخمة في مجال زراعة الموز في ساحل العاج مكنت من توفر هذه المادة في رفوف أسواق الفلاح المعروفة في تلك الفترة بهذه التسمية. 

لقد عُرفت مرحلة هواري بومدين بندرة المواد الغذائية ونقصًا في المواد الاستهلاكية، وكان النمط المعيشي والغذائي للجزائريين فقيرًا مقارنة بالشعوب المجاورة، وعرفت فترة الرئيس شاذلي بن جديد شهدت أيضًا طوابير طويلة أمام الأسواق الفلاح في انتظار توزيع السلع الأساسية.

مخاوف من تكرار التجربة

لقد شكلت كل هذه التراكمات والصور العالقة في الأذهان، مخاوف عند الجزائريين إلى غاية اليوم، ورغم البحبوحة المالية وتحرر التجارة الخارجية من قبضة الدولة، إلا أن سنوات الندرة ونقص المواد الأساسية والطوابير ما تزال تشكل هاجس ومخاوف من عودة التجربة، خصوصًا أن نمط استهلاك المواطن الجزائري بات أوسع من الثمانينيات والتسعينيات، حيث أصبح يَعيش وسط قرية مُعَولَمة بفضل التكنولوجيات، وأمسى سلم الأجور متفاوتًا بين طبقات المجتمع الواحد.

المغتربون والموز

تشكلت الجالية الجزائرية بفرنسا بعد هجرة اليد العاملة من قرى ومداشر الجزائر إلى الميتربول بفرنسا بداية منذ سنة 1930، وبداخل كل عائلة جزائرية تُربط علاقات قرابة مع أفراد الجالية الجزائرية بفرنسا أو ما يطلق عليه "الزماكرة"، وهو مصطلح باللهجة العامية مشتق من الكلمة الفرنسية( Les immigrés)، وميزة الجالية الجزائرية بفرنسا أنها من أكثر الجاليات المرتبطة بأرض وطنها وتعقد علاقات قوية مع أهاليها بالجزائر.

على مرّ سنوات السبعينات والثمانينات،وخلال فصل الصيف والعطل الصيفية يعود المهاجرون إلى أرض الجزائر، على طول شارع جيش التحرير الوطني وأمام مخرج ميناء العاصمة، كانت تصطف عشرات السيارات من نوع 504، تحمل رقم 38 ، وملصقة تحمل حرف F ، مركبات تشبه صالونات الغجر، فهي محملة بالحقائب والصناديق والدراجات، وعلى ظهر المركبة توضع الثلاجات، وآلات الطبخ والثلاجات والزرابي، وكلها محكمة بالحبال بشكل مميز.

يتجه المهاجرون إلى أقاربهم وأهاليهم في مختلف أنحاء القرى والمداشر والمدن، حيث ارتبط عودة هؤلاء المهاجرون بتوفر كميات من فاكهة الموز، التي يقومون بتوزيعها مساء ذلك اليوم على أفراد العائلة خصوصًا على النساء الحوامل.

 وبفعل الندرة تشكل الموز في ذهنية الجزائري أنه صورة تفوق المهاجر على من اختار الإقامة في الوطن، وعنوان النجاح والرخاء المادي والترقية الاجتماعية، وكانت العائلات تعطي أولوية توزيع فاكهة الموز على النساء الحوامل، وتُجزئ الأمهات قطع حبة الموز على الأطفال بالتساوي والعدل، بينما يَنتظر الأطفال تلك اللحظات بشغف، وتهمس الأم عادة لأبنائها بعدم أكل قطع حبات البنان أمام أعيان الأطفال المُحرومين منها احترامًا لهم ولمشاعرهم، وكانت ترمى قشور البنان مخبئة في أكياس سوداء من باب إخفائها على عيون الجيران، بينما العائلات التي كانت تقذف بقشور الموز وعلب الأجبان إلى الشارع،  فكانت تُوصف بـ"الزواخة" أي المتفاخرة.

ميزة المهاجرين الجزائريين أنهم لم يجلبوا في حقائبهم وصناديقهم الموز فقط، بل قاموسًا شفهيًا من المصطلحات واللكنات في نطق باللغة الفرنسية على غرار"labachinos "  وتعني هناك عندنا في فرنسا، وكلمة " bande de bicou va"  و"mizirya " وتعني البؤس.

ما تزال الجالية الجزائرية المقيمة بالخارج تقدم يد العون إلى عائلتها داخل الجزائر إلى اليوم، خصوصا في نقل الأدوية التي تعرف ندرة في الصيدلانيات بالجزائر.

مازال الجزائريون يعيشون هاجس ندرة المواد الغذائية بعد عدة عقود من استقلال الجزائر 

وعلى العموم، وبعد ستة عقود من الاستقلال ما يزال المواطن الجزائري يعيش هاجس الندرة في السلع والبضائع وقلقًا يرهقه من صور الطوابير الطويلة التي ما تزال أمام مكاتب البريد والوقوق طويلًا أمام وكالات الخطوط الجوية والبحرية الجزائرية من أجل السفر إلى الوطن ولو بدون فاكهة الموز..