09-يونيو-2016

أطباء يفطرون على طاولة العمليات(كريستوفر فرلنغ/Getty)

ليست لحظة الإفطار فرصة للقضاء على الجوع والعطش فقط، بل هي فرصة حميمة للاستمتاع بلقاء من نحب أيضًا، لذلك نجد مهاجرين كثر يتعمدون أن يوافق شهرُ إجازتهم شهرَ رمضان، فيعودوا إلى أسرهم في مسقط الرأس، وهناك من يطلب عطلة مرضية ليدرك هذه الحميميات التي لا يمكن تحصيلها بالمال.

يأكل الطبيب أو الممرض المداوم خلال شهر رمضان وجبة باردة في جو مهني بارد، وبسرعة حارة، حتى يبقى مستعدًا لاستقبال أي حالة مرضية طارئة

كبرنا على أنه من المقاصد السامية للصيام أن نكتسب الإحساس بجوع الآخرين، فتقوى لدينا نزعة الشفقة والصدقة والإحسان إليهم، لكننا لم نتخذ من رمضان فرصة لتنمية الإحساس بحاجة فئات ليست فقيرة ماديًا، فهي من الطبقات الوسطى على الأقل، إلى أن تعيش مثلنا لحظات رمضانية عميقة مغمورة بمشاعر الأمومة والأبوة والأخوة والجوار، خاصة أن حرمانها من هذه اللحظات هو ثمرة لاهتمامها بالآخرين.

اقرأ/ي أيضًا: 5 مشروبات سودانية مميزة لمائدة رمضان 

فئة الأطباء والممرضين المداومين، سواء في عيادات حكومية أو خاصة، من هذه الفئات الجديرة بالتعاطف معها في رمضان، والانتباه إلى نفاسة تضحياتها من أجل غيرها، تأتي في مقدمة هذه التضحيات أنها تأكل وجبة باردة في جو مهني بارد، وبسرعة حارة، حتى تبقى مستعدة لاستقبال أي حالة مرضية طارئة.

يقول ياسين عبد الجبار الطبيب في مستشفى وهران، إنه صام أول أيام رمضان، هذا العام، بعيدًا عن أسرته المقيمة في مدينة تيارت، وتناول فطورًا خاليًا من لمسة أمه الدافئة. ويضيف: "من ينكر أن أكثر لحظات رمضان عمقًا وحميمية هي اللحظات القليلة التي تسبق الأذان والساعة التي تليه، حين تكون العائلة كلها متمترسة خلف المائدة؟ من ينكر أن للقهوة والشاي والحلوى التي تقدم في سهراته مع الأهل طعمًا يزيد في العمر؟ من ينكر أن اجتماع الأسرة ثانية لتناول وجبة السحور في وقت غير مُتَعَوَّد عليه، هو وقت إضافي لتخزين مزيد من حريرات السعادة؟".

لا ينكر ياسين أن هناك خطوات عفوية تقوم بها إدارة المستشفى والأطباء والممرضون المداومون، لتوفير مناخات عائلية ساعة الإفطار، لكن الإحساس بالحرمان يبقى مهيمنًا لأن الأمر يتعلق بالبعد عن نفوس لا يمكن تعويضها أبدًا. "قد يجد الطبيب أو الممرض المداوم زميلًا كريمًا يشاركه الإفطار، لكنه يعجز عن تعويض الأب، وقد يجد زميلة نقية، لكنها تعجز عن تعويض الأم، وقد يجد في مرضاه أنفسهم من يشاركه اللحظة، لكنه يعجز عن تعويض الأخ الشقيق".

تقوم إدارة المستشفى بخطوات عفوية أحيانًا لتوفير مناخات عائلية ساعة الإفطار لكن الإحساس بالحرمان يبقى مهيمنًا

اقرأ/ي أيضًا: حملة #جايينكم .. عين على الموظف التونسي في رمضان

يروي ياسين عبد الجبار حادثة طريفة: "يكثر استقبالنا في الساعات التي تلي الإفطار، لحالات تشكو التخمة أو عسر الهضم نتيجة الإفراط في تناول الطعام، فنحاول الجمع بين غسل المعدة والمخ معًا، بتنبيه المريض إلى وجوب التعامل مع المعدة على أنها كائن حي لا يتحمّل فوق طاقته.

مرة استقبلت مريضًا من هذا النوع، وما أدهشني أنه كان طبيبًا مثلي. سألته: لماذا قذفت في جوفك كل تلك الأطعمة؟ فقال إنه غاب عن الإفطار مع العائلة أسبوعين، لأنه كان مداومًا، وحين أفطر مع أمه أعدّتْ له كل أطباق الدنيا، وكان كلما رفع يده، أقسمت عليه بتربة أبيه أن يزيد".

ياسين عبد الجبار طبيب في مستشفى وهران(فيسبوك)

 

يحدث، بحسب ياسين، أن يدعى الطبيب المداوم، إلى إسعاف حالة طارئة، بعد الملعقة الأولى، أو بينما هو يهمّ بأداء صلاة المغرب، أو عند نصف الوجبة. "أصلًا يأكل والسماعة في أذنيه دلالة على استعداده لأن يكون في الخدمة. أحيانًا يحدث ذلك على وجبة السحور، حيث يفوته الوقت ولا يمكنه التعويض، عكس وجبة الإفطار، فيبيت ويظل على الطوى كما قال عنترة بن شداد".

ينفي ياسين عبد الجبار أن يكون الندم قد ساوره يومًا، على اختياره مهنة الطب. "يزول التفكير في التعب بمجرد ملاحظة الراحة في عيون المرضى، ويتلاشى الإحساس بالبعد عن الأسرة بمجرد ملاحظة السعادة الناجمة عن عودة المريض الذي كان مؤهلًا للقبر إلى أهله وذويه".

ويركز محدثنا على التذكير بفئات شبيهة بفئة الأطباء المداومين: "لا يريد من هم في وضعنا، مثل الشرطة والجنود والجمارك ورجال الحماية المدنية، إلا أن يُنظر إليهم بعين الحب من طرف المواطنين، والدعاء لهم بالعافية والقدرة على أن ينفعوا الناس بخبراتهم وجهودهم، وأن يخلفهم الله في أهلهم بخير". ويختم: "على المواطنين الذين يجاهرون بغضبهم في وجوه هؤلاء، أن يدركوا أنهم تعسفوا في حقهم، في اللحظة التي كانوا مطالبين فيها بأن يقولوا لهم: شكرًا".

 

اقرأ/ي أيضًا:

أزمة المجاهرين بالإفطار في مصر بين المفتي والقانون

اللباس التقليدي يزيّن المغاربة في رمضان