02-مارس-2020

الشاب خالد (تصوير: باتريك/Getty)

قد نختلف كثيرًا، عندما يتعلّق الأمر بالذوق الفنّي ونوعية الموسيقى التي نحب، لكنّنا نتّفق غالبًا على الخشوع أمام جمال صوت الشاب خالد، وهو يئن كعاشقٍ مخمورِ القلب، يُغالبه الأسى في استخبار: "نوصي العاشق  جامي ما يربّي الكبدة سبق، ولي عنده شي محنة يصبر لعذابها"، أو حينما يُناجي جمال بختة ويمينة، في صورة مُرهبة للمرأة الوهرانية الجزائرية.

انطلق نجم الشاب خالد في أوروبا، من خلال أوّل مهرجان للراي شهدته بلدية "بوبينيي" الباريسية

بلغ الشاب خالد عامه الستين، يوم التاسع والعشرين من شبّاط/فيفري، إذ يحتفل بميلاده مرّة كلّ أربع سنوات، كظاهرة نادرة لا تحدث دائمًا، تشبه الفنان داخله.

اقرأ/ي أيضًا: "عبد القادر يا بوعلام".. قصيدة صوفية أوصلت الراي إلى العالمية

بتلك البساطة، وتلك الضحكة الاستثنائية التي تُخفي عنفوان الفتى الوهراني، الذي بُعث من الهامش نبيًا في قلب أغنية  الراي، من حي الكميل العتيق بوهران، التي غنّى لها فأسر كل مدن العالم، وراح ينشر هذا الدين الآسر في العالمين، فتُوّج ملكًا عليه.

الرّاي ثورةً...

يروّج خالد بصوته الآسر، لتلك الكلمات وليدة الأحياء الشعبية الوهرانية، ذات الروح المتحرّرة من قيد الطابوهات، الهاربة من قبضة المسكوت عنه خلف الأبواب المغلقة، بفضل شيوخ الراي الذين سبقوه.

في سنّ الخامسة والعشرين، قال الشاب خالد بأنّه "غنّى عن الحب، الجنس، عن المرأة، وعن الخمر، وعن كلّ المواضيع الاجتماعية، التي لم يجرؤ أحد من أبناء جيله على الحديث عنها أمام الأهل، عن كلّ ما يحظره الإسلام ويثير غضب الأصوليين".

في مجتمع أتعبه التشدّد والممنوع في نهاية الثمانينات، خرج علينا ذلك الفتى الذي رفض كلمة "ابتذال" بأغانيه الثائرة التي لا تعترف بالرسميات، بموسيقى روحُها من روحِ فنّ الراي الذي تمرّد على التقاليد المُرَوّضة، وعلى الالتزام، رايٌ ينأى بنفسه عن كل الأغلال المجتمعية والدينية.

خالد الحاج إبراهيم، الذي كتب عنه سعيد خطيبي في روايته "حطب سراييفو"، هو "ملح البدايات وربيع الأسفار وذاكرتنا الوطنية، الأسمر الذي يتكلّم عني، عن قصد أو دون قصد منه، يصفني في أغنياته، أفضل مما قد أصف ذاتي. في الزمن الأحمر هذا، تستحيل أصوات البشر إلى نواحٍ وبكاء، عدا صوت خالد الذي يجاهر بالحبّ والانعتاق. (النيغرو) أو الزنجي، كما يسميه الوهرانيون، يعرف كيف يدقّ على قلب من يستمع إليه".

من "بوبينيي" نحو العالمية

انطلق نجم الشاب خالد في أوروبا، من خلال أوّل مهرجان للراي شهدته بلدية "بوبينيي" الباريسية، والذي نظمه المنتج الشهير مارتان ميسونيي، حيث زار وهران قبلها، وتعرّف على الجوّ الحقيقي لهذا الفن المنفلت من الرسميات، وشاهد بإعجاب شديد الشاب خالد، وهو يحيي الأعراس في البيوت الشعبية إلى الساعات الأولى من الفجر.

شارك في هذا المهرجان، كلٌّ من الشاب خالد، فضيلة وصحراوي، والشاب مامي كصوت واعد، ووُصفت ظاهرة الراي آنذاك بـ "موجة وهران الجديدة الشغوفة"، وبتاريخ 23 كانون الثاني/جانفي 1986، كان المهرجان أوّل تظاهرة أعطت صورة واضحة لهذا الفن عالميًا.

 استُنفذت كل التذاكر التي بلغ عددها الألفين، رغم قلة الدعاية، في حين بقي جمهورٌ غفير يترقّب من الخارج هذا الحفل غير المسبوق، حيث كان الجميع متعطشًا لمعرفة هذا المغنّي الأسطورة، الذي لم يكن يحمل جواز سفر، وكان مطلوبًا للخدمة العسكرية في الجزائر، حسب تصريح لمنظّم المهرجان. المعاناة التي غنّاها خالد في أغنية "لاليبارتي" قائلًا : "سنتان من المعاناة وبعدها إلى فرنسا"، في إشارة إلى معاناته طيلة مدّة الخدمة الوطنية.

رمزٌ سلطويّ أو فنان عفويّ؟

يحكي الباحث فيصل صحبي، في حديث إلى "الترا جزائر"، في ما أسماه بتبرير اللامعقول، أن الشاب خالد - و لعلّ ذلك كان في حفله الأوّل بألمانيا- قد أهدى أغنيته إلى "الحرّاكة" (بتشديد الراء)، ومخافة أن لا يُفهم قصده، أو أن يُنسب إلى أنّه يعني به "الحراڨة"، استرسل قائلا: "لي يحرّكوا"، قبل أن يترجم مفهومه المبتكر آنذاك (Ceux qui bougent)، حتّى لا يترك مجالًا للُبس أو مكانا للإبهام، تمامًا مثلما كان ليفعل جيل دولوز لو كان في الموقف نفسه.

وأضاف فيصل صحبي، أن الشاب خالد واصل بعدها وقال: "تحياJSMT "، لكن هذا القول لا يهمّنا في هذا المقام، حتى وإن كان بالغ الأهمية، ومن شأنه أن يعطينا مؤشرًا على مكان الحفل وسياقة التاريخي.

  وقال المتحدث، إنه بغض النظر عن هوس الدّقة المصطلحاتية الذي أبان عنه خالد، والذي لا يُضاهيه حسبه، إلا محاولات إيمانويل كانط في نقد العقل الخالص، وحتى إن تجاوزنا النظرة الاستشرافية الثاقبة التي لا ينكرها إلا جاحد أو حاسد، فالرجل تنبأ بالحراك عقودًا قبل ظهور أولى بوادره، على حدّ تعبيره.

قد يكون الشاب خالد، حسب فيصل صحبي، "مستفيدًا من الأوضاع دون أن يطلب ذلك، رمزًا بوتفليقيًا دون أن يرفض، لكن قد يكون كذلك منظّرًا للحراك دون أن يدري؛ متنبأً به دون أن يقصد؛ ونحن نُحبه من حيث لا نعلم".

المغرب في حبّ الكينغ

 يصنع المغرب الاستثناء من بين كل الدول الشقيقة، في حبّ الشاب خالد، فتشعر وأنت تحدّث أي شابٍّ هناك، بأنه ابن حي وهراني عتيق، يحفظ كل أغاني الكينغ القديمة ويتابع أخباره، يسهر ملتحفًا تلك المواويل القديمة ويمنحها أسراره وأوجاعه.

حصل الشاب خالد على الجنسية المغربية، كما أن حبّ حياته وزوجته، ومديرة أعماله هي سميرة ديابي المغربية، التي غنّى لها العديد من أغاني الحبّ، وآثر أن يستقرّ مع عائلته هناك بعد مغادرته فرنسا.

هنا، يقول الشاعر المغربي عادل لطفي، في حديث إلى "الترا جزائر"، إن الشاب خالد الذي أخذ من اسمه الصفتين، استطاع أن يجعل من صوته وموسيقاه، منطقة لتوافقٍ نادرٍ حول الذوق، حيث يمكن أن تنصت للشاب خالد في جميع حالاتك.

وأضاف عادل لطفي، أن هذا الفنان استطاع من خلال البحث في التراث والتجديد الموسيقي، أن يجعل من فن الراي المغاربي فنًا عالميًا، وأن يقدّم لنا أغانٍ محرّضة على الحياة والحبّ والسلام، على حدّ تعبيره.

خالد لم يعد جزائريًا فحسب، كما قال الشاعر المغربي، إذ يعتبره من طينة الفنانين المعتنقين للإنسانية في مفهومها الواسع، لذلك نجح في كسب قلوب المعجبين حول العالم، ولم يكن المغاربة استثناءً حسبه.

وأردف عادل لطفي، بأن علاقة الجمهور المغربي بالشاب خالد، هي علاقة حبّ متبادل، يكفي مشاهدة حفلاته في المغرب لتأكيد ذلك، يحبّه المغاربة لأنّه يشبههم ويغنّيهم، يطربهم لأنه يعزف على وتر الحياة والألم والحب.

شخصيًا، يميل عادل لطفي إلى أغاني الشاب خالد المعتّقة، أكثر من الأخرى ذات الطابع التجاري كما قال، وهو يعشق تنويعاته الصوتية في أغنية "بختة"، ونوستالجيا "وهران وهران"، كما تأسره جملة "الحوت خير م الدود"، في أغنيته الشهيرة حول الهجرة السرّية.

 وفي كلّ الأحوال، يبقى "ريبيرتوار" خالد كله داخلًا في دائرة الذوق الموسيقى لهذا الشاعر.

"الكوتشي" ألبوم الرسميات

عن قصّة ألبوم "الكوتشي"، صرّح المنتج مارتان ميسونيي، في حوار صحافي سابق، أن الفنان صافي بوتلة قصده ذات يوم، باحثًا عن منتج لألبوم كان يشتغل عليه مع الشاب خالد، وقد كان هذا المشروع ممولًا من طرف الحكومة الجزائرية، وقت كان الملازم الكولونيل حسين سنوسي، مسؤولًا عن مكتب رياض الفتح، والذي كان آنذاك مؤسّسة قائمة تحت رعاية الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، وكانت النتيجة هي صدور ألبوم "الكوتشي" عام 1988، بالتعاون مع شارل تالار وديديي باربيليفيان، رغم ما كانت تتّسم به الثقافة الرسمية من قيود وتوجيهات، وأسماها سنوسي  بـ "عملية الكوتشي"، تلك القطعة الفنية التي خرجت بالشاب خالد نحو نور العالمية، وبيعت منها حسب المنتج 100 ألف نسخة، رغم أنه ألبوم لم يحقّق نجاحات كبيرة في قنوات الراديو.

يبقى الكينغ خالد، رغم كل ما يؤخذ عليه من مواقف وتصريحات، بمثابة العلامة الفارقة التي منحت صوتًا عالميًا لهذا الفن

يبقى الكينغ خالد، رغم كل ما يؤخذ عليه من مواقف وتصريحات، بمثابة العلامة الفارقة التي منحت صوتًا عالميًا لهذا الفن الهارب من مخالب المجتمع القائم على الزيف، يحكيه كما هو، بندوبه وبملامحه القاسية، بتقاسيم الثورة الجميلة غالبًا دونما مساحيق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سولكينغ ستايل.. مزيج بين موسيقى الراب والأنمي الياباني

فنّ أهلّيل.. غرام التصوّف والرّوحانيات الجزائري