يُشّكل قطاع الأشغال العمومية والبناء، العمود الفقري للمنظومة الاقتصادية في كل دول العالم، حيث يتمحور عليه عمل الحكومات في إعادة بعث البرامج التنموية المحليّة والوطنية، فهو محرّك القطاعات الصناعية والخدماتية والسياحية، وتكمن أهميّته الاقتصادية والاجتماعية في أنه الخزّان الذي يمتصّ اليد العاملة والمساهم الفاعل في سوق الشغل.
سجلّت "الجمعية الوطنية للمقاولين الجزائريين" توقّف نشاط أكثر من 3650 مؤسّسة وتسريح 275 ألف عامل مؤخًرًا
سعت الحكومات الجزائرية السابقة، قصد تحقيق تنمية اقتصادية متكاملة، إلى بعث قطاع الأشغال العمومية والبناء والريّ، ولتمكين نجاح البرامج الخماسية، تمّ الاعتماد على 365 ألف مؤسّسة. وبحسب الديوان الوطني للإحصائيات لسنة 2016، يوظّف قطاع الأشغال العمومية حوالي 1.3 مليون عامل، أي 16.6 في المائة من سوق الشغل.
اقرأ/ي أيضًا: صيانة الطريق السيّار.. مخاوف من تكرار"فضيحة القرن"
إفلاس القطاع
عرفت الطفرة المالية التي عاشتها الجزائر ما بين سنتي 2002 و2014، انطلاق مشاريع ضخمة على مستوى البنى التحتية للبلاد، شملت إنجاز الطريق السيار (شرق- غرب)، الطريق العابر للصحراء، المنشآت القاعدية البحرية والمطارية، محطّات الترامواي عبر عددٍ من الولايات، وتوسيع شبكة الميترو في العاصمة، ومشاريع السّكن بصيغتيها العمومي والترقوي.
في مقابل ذلك، يؤكّد فاعلون في المجال، أنّه رغم حجم النفقات المالية المتدفّقة في القطاع، إلا أن قطاع الأشغال العمومية لم يحقّق قفزة تنموية نوعية، ولم يقدّم قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، فقد دفع تراجع مداخيل النفط بداية من سنة 2014، الحكومة إلى تجميد الكثير من المشاريع المسطّرة، فانعكس ذلك على تراجع نشاط المقاولات ورقم أعمالها، وإفلاس العديد من المؤسّسات، وبحسب مصادر إعلامية، بلغ حجم مستحقّات الشركات المقاولاتية تجاه الخزينة العمومية 130 مليار دينار (1.2 مليار دولار)، الأمر الذي دفع بحكومة أحمد أويحيى السابقة إلى طباعة النقود قصد تسديد الديون.
في هذا السياق، دقّت "الجمعية الوطنية للمقاولين الجزائريين" ناقوس الخطر، وكشفت في آخر اجتماع لها، أنّها سجلت توقّف نشاط أكثر من 3650 مؤسّسة وإلغاء 275 ألف منصب شغل، وتكشف إحصائيات سابقة، أنه خلال فترة الستة أشهر الأخيرة فقط، أعلنت 650 شركة إفلاسها، أدى ذلك إلى فقدان 125 ألف منصب عمل منذ الفاتح آذار/مارس، وأشارت الجمعية في بيان لها، أن حالة الانسداد السياسي أدّت إلى توقيف كثير من الأنشطة.
تراجع صناعة مواد البناء
من جانب آخر، انعكس تراجع قطاع الأشغال العمومية، بشكل سلبي على قطاع حيوي آخر، وهو صناعة مواد البناء، كالحديد والإسمنت والخزف، وفي هذا الشأن؛ ذكرت تقارير إعلامية عن تراجع النشاط الصناعي إلى حدود 70 في المائة، وعرف السوق كسادًا في مادّة الإسمنت وفائضًا في الإنتاج، نتيجة ارتفاع العرض مقابل تراجع الطلب، وغياب التسويق نحو الخارج.
في تقدير بعض المختصّين في ميدان الأشغال العمومية، تعود أسباب فشل القطاع، إلى طابعه الريعي، حيث كان القطاع حبيس رجال أعمال مقرّبين من الأوساط السياسية الحاكمة، في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
ولأنّ الدولة كانت المورد الوحيد في مجال الاستثمارات والمشاريع، المموًّلة من الخزينة العمومية، شجّعت بعض الامتيازات الممنوحة من طرف الحكومات، كالدفع المسبق الذي يتراوح ما بين 50 و30 في المائة من القيمة الإجمالية للمشروع، وضمان التمويل البنكي، ومنح المشاريع بالتراضي لرجال الأعمال المقرّبين من السلطة، وتمكينهم من احتكار هذه المشاريع وتضخيم فواتيرها، والتعامل بمنطق المحسوبية والرشوة في توزيعها.
يبدو جليًا، أن التوقيفات الأخيرة التي مسّت بعض الأفراد في قطاع الأشغال العمومية والبناء والريّ، كان لها تأثير كبير على شلّل هذا القطاع، وتوقّف الكثير من المشاريع والاستثمارات، ونتج عن هذه الوضعية، إفلاس مؤسّسات مقاولاتية صغيرة ومتوسّطة، فُرض عليها التعامل في إطار المناولة، بعدما احتكرت شركات رجال الأعمال المقرّبين من السلطة هذه المشاريع.
زمن الاحتكار
تدهور قطاع الأشغال العمومية، تلخّصها تجربة الشاب سفيان في مجال المقاولاتية، فهو بعد تخّرجه من معهد الأشغال العمومية، حاول الالتحاق بنشاط عائلته في مجال البناء والأشغال العمومية، إلّا أنّه أصيب بخيبة أمل من واقع القطاع. يقول سفيان في حديث إلى "الترا جزائر"، إنّه لم يستطع الاستمرار في مزاولة النشاط المقاولاتي، "فقد بات القطاع مليئًا بالدخلاء، وهذا بداية من سنة 2004، أيّ العهدة الثانية للرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة". مشيرًا إلى أنّ هذا المجال، بات حكرًا على شركات خاصّة، استحوذت على جلّ المشاريع، يُتداول في الوسط المهني، أنها قريبة من محيط الرئيس وشقيقه على حدّ قوله.
يوضّح المتحدّث في هذا السياق، أنّ قرار توقّفه عن ممارسة العمل في المجال، كان بسبب "إخضاع المؤسّسات التي تنشط في المجال المقاولاتي، وفق العمل بالمناولة، ويترتّب عن ذلك احتساب تكلفة الإسمنت المسلّح بـ 11 ألف دينار للمتر المكعّب، غير أن التكلفة التقديرية وفق معايير السلامة والجودة هي 14 ألف دينار جزائري للمتر المكعّب، وهو ما يدفع كثيرًا من المتعاملين إلى الغشّ".
واجه قطاع الأشغال العمومية في الجزائر، في العقدين الأخيرين، عملية تفكيك وإفلاس متعمّدة، بحسب متابعين، وذلك قصد خوصصته لصالح المجمّعات الخاصّة، فقد شهدت المؤسّسة الوطنية "SONATRO"، وهي شركة مختصّة في أشغال الطرقات الكبرى، عملية إفلاس متعمّدة، انتهت باستنزاف إطاراتها وعتادها لصالح مجمّع خاصّ، وترتّب عن ذلك طرد 320 عاملًا، والأمر نفسه تكرّر مع الشركة الوطنية للقنوات، التابعة للمجمّع الوطني "سوناطراك"، غير أنّ عمّال المؤسّسة رفعوا التحدّي، لصد مشروع الخوصصة لصالح "الأوليغارشية المالية"، بحسب شهادة بعض نقابي المؤسّسة.
تمّ الاتفاق مؤخّرًا على تشحين مادّة القمح ومسحوق الحليب، اعتمادًا على المؤسّسة الوطنية للنقل البحري حصريًا
قصد إعادة الاعتبار للقطاع العمومي، صدر قرارٌ حكومي يُلزم كلّ المؤسّسات بانجاز المشاريع العمومية، بتموين ورشاتها بصفة حصرية من مادّة الحديد المنتجة محليًا وبالأساس من مركب الحجّار بعنابة، وأعطيت تعليمات، بهدف تحويل كلّ المشاريع، التي سُلّمت سابقًا لمجمّع حداد أوشركة كونيناف (التابعتين لرجلي الأعمال المسجونين)، وإعادتها إلى المجمّع العمومي "كوسيدار" في مجال النقل العمومي، كما تمّ الاتفاق مؤخّرًا على تشحين مادّة القمح ومسحوق الحليب، اعتمادًا على المؤسّسة الوطنية للنقل البحري حصريًا، وتحصّلت المؤسّسة الوطنية للمنشآت الفنيّة الكبرى بالتراضي، على مشروع طريق يربط بين بلدية براقي ومدينة البليدة، بقيمة مالية تقدّر بـ 10 مليار دينار.
اقرأ/ي أيضًا:
علي حدّاد.. نهاية إمبراطورية الزفت !
فوضى إدارة المشاريع الحديثة.. الجزائريون يسخرون من مشروع "المدينة الذكية"