لم يكن متأنّقًا ذلك اليوم ببذلته الكلاسيكية كما هو معتاد، ولا مرفوقًا بحرسه الخاص، بل كان بثياب عادية ويعتمر قبّعة رياضية حتى لا يتعرّف عليه الناس أثناء رحلته. يصل للمعبر الحدودي الشرقي أم الطبول الفاصل بين الحدود الجزائرية التونسية. يقترب من الشبّاك، ويقدّم لعون شرطة الحدود جواز سفر بريطاني، يقرأ العون الاسم واللقب، ينظر في الصورة التي على الجواز والشخص الواقف أمامه، لم يكن العون مخطئًا، من يقف أمامه هو الملياردير علي حدّاد، يخاطبه الشرطي: "سيد حدّاد، اتبعني من فضلك".
أصبحت إمبراطورية الإخوة حداد تتحصّل على كل الصفقات العمومية بطريقة مشبوهة
دقائق بعد ذلك يشتعل الشريط الأحمر للأخبار العاجلة على قنوات جزائرية: "شرطة الحدود تعتقل رجل الأعمال على حداد في مركز أم الطبول بولاية الطارف"، لقد حلّل متابعون الحدث ذلك اليوم بكونه يصلح سيناريو فيلم بعنوان: "فرار الفتى المدلّل للنظام الجزائري"، سيتمّ تصوير مشاهده بين قاعة محكمة سيدي امحمد وزنزانة في سجن الحرّاش بالعاصمة.
اقرأ/ي أيضًا: موجة عالية للقضاء: نائب عام جديد والمزيد من ملفات الفساد أمام المحاكم
من أين لك هذا؟
ولد علي حدّاد في مدينة أزفون بولاية تيزي وزو عام 1965، أتمّ دراسته الجامعية عام 1983 متحصلًا على شهادة في الهندسة المدنية من جامعة تيزي وزو، مباشرة بعد تخرّجه انخرط في مجال المال والأعمال وأنشأ رفقة إخوته شركة عائلية لأشغال البناء، كما قاموا بشراء أحد الفنادق بمدينتهم الساحلية، تحصّلت الشركة العائلية على أوّل صفقة عمومية لهم في مشروع لتعبيد طريق بطول 14 كيلومترًا. لقد كانت الخطوة الأولى في مسار شركة ستصبح بعد عشرين سنة ثاني أكبر شركة في مجال الأشغال العمومية والبناء بعد الشركة الوطنية "كوسيدار".
بعدها أصبحت إمبراطورية الإخوة حداد تتحصّل على كل الصفقات العمومية بطريقة مشبوهة، ثم تعيّن شركة أخرى لإنجاز المشروع بنظام المناولة ليكون من نصيب حدّاد نسبة من قيمة المشروع دون بذل أي مجهود ودن صرف سنتيم واحد، فضلًا على حصانة السلطة التي تتمتّع بها في حالة إخفاقها للمشاريع، وكان من نصيب هذه الشركة، مشروع الطريق السيّار شرق غرب، أحد أكبر المشاريع في عهدة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة حيث تحصّل مجمّع حداد على شطر كبير منه، ومنها جاءت تسمية رجل الزفت التي يشتهر بها علي حدّاد في الجزائر.
شقيق الرئيس
يملك علي حدّاد جوابًا ذهبًيا على كل الأسئلة المتعلّقة بمصدر ثروته التي تضخّمت بسرعة في عهد بوتفليقة، يبتسم ويقول: " أنا بدأت في التسعينيات، عملت بدون كلل، وأنا الآن أجني ثمار تعبي، بدأت مديرًا لشركة عائلية ننجز المشاريع الصغيرة في القرى والمداشر، أنا لم أسرق بل نسجت طيلة مسيرتي علاقات سمحت لي بتطوير نشاطاتي بسرعة".
وعن علاقته برجال السياسة، فإنّ حداد يداوم على نفس الإجابة "المسؤولون الكبار الذين أتعامل معهم بمثابة أصدقاء، أعرفهم منذ زمن طويل". لكن لا يخفى على أحد أن الصعود الصاروخي للرئيس السابق لمنتدى رؤساء المؤسّسات كانت بفضله علاقته مع شقيق الرئيس السابق سعيد بوتفليقة بعد أن أصبح حدّاد الراعي الرسمي لحملات بوتفليقة الانتخابية ومموّلها الأول منذ عام 2004.
بات علي حدّاد نافذًا في مجالي المال والسياسة، مستوليًا على أكبر تكتّل يضم رؤساء المؤسسات (الكارتل المالي)، والذي حوّل إلى مجرّد لجنة مساندة لبرنامج الرئيس السابق، وبلغ الرجل أوجّ قوته حين دخل في صراع مباشر مع الوزير الأوّل الأسبق عبد المجيد تبّون الذي أعلن حربًا على المال الفاسد، لكن هذه الحرب انتهت بتنحية الوزير بعد 80 يومًا من تعيينه، يعلق أحدهم على ما حدث "النظام انحاز لمن يَدفع وليس لمن يُدفع له".
دينار الجزر العذراء..
اهتزّ عرش الكارتل المالي في الجزائر عام 2017، على وقع نشر تسريبات وثائق بنما، حينها نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية مقالا عن تورّط علي حدّاد في فضيحة تهريب أموال نحو الخارج، حيث كشف تقرير الصحفي الجزائري إلياس حلّاس المشارك في التحقيقات التي أنجزها الاتحاد العالمي للصحافيين الاستقصائيين، أن حداد استعان أواخر 2004 بخدمات مكتب "موساك فونسيكا" الشهير من أجل فتح شركة وهمية في الجزر العذراء البريطانية، كأداة لتهريب أمواله خارج البلاد.
شركة حداد الوهمية كانت مختصّة في ميدان الاستثمار العقاري، وأوكلت مهمّة تسييرها لفرنسي يُدعي جاي فيات، وهو الشخص نفسه الذي كان يُدير شركة باسم وزير الصناعة الجزائري الأسبق عبد السلام بوشوراب المذكور أيضًا في وثائق بنما، والموجود حاليًا في حالة فرار في لبنان، بعدما طالبت العدالة الجزائرية برأسه كونه عرّاب ملفات الفساد في الجزائر في فترة تولّيه حقيبة الصناعة.
وورد في التقرير نفسه، أن الشركة التي أنشأها علي حدّاد تملك حسابًا مصرفيًا لدى "اتش أس بي سي" في لندن، ويحتوي نحو 67 ألف جنيه إسترليني قبل أن يرتفع الرقم بعد 12 شهراً إلى 2.43 مليون جنيه إسترليني.
الصعود إلى الأسفل..
لم يكن قطاع الأشغال العمومية المجال الوحيد لاستثمارات مجمّع حداد، حيث يمتلك ثاني أغنى رجل في الجزائر، فنادق داخل وخارج الوطن، كما أنشأ سنة 2008 "مجمّع الوقت الجديد للصحافة"، و الذي يضم جريدتين ناطقتين باللغتين العربية والفرنسية، أضاف إليهما عام 2014 قناتين تلفزيتين هما دزاير نيوز ودزاير تي في. كما استحوذ المجمّع عام 2011على نسبة 72 في المائة من أسهم نادي إتحاد العاصمة أحد أشهر فرق كرة القدم في الجزائر.
بعد رضوخ بوتفليقة لضغط الشارع وإعلانه عن استقالته بعد 20 عامًا من الحكم، توالت الأحداث بعد ذلك معلنة سيناريو سقوط نظامه، في تلك الأثناء كانت كل الأنظار متوجّهة لرجال الأعمال والسياسيين المستفيدين من نظام بوتفليقة وحاشيته، وعلي حداد كان أبرزهم، فالكل يُجمع أن شركات حداد مرتبطة كليًا بالصفقات العمومية التي تُمنح لها، فهي مجرّد إمبراطورية من ورق، ستنهار في ظرف وجيز.
قبل أيّام أعلن "مجمّع الوقت الجديد" في بيان عن توقّف بث قناة دزاير نيوز بداية من 25 حزيران/ يونيو الجاريـ ليتم إدماجها مع قناة "دزاير تي في" وذلك لترشيد النفقات في ظل وضعية صعبة يعيشها المجمّع بعد اعتقال مالكه، ويُجمع كثيرون أن غلق قناة تلفزية هي أولى تبعات تقلّص نفوذ مدلّل النظام السابق.
في اليوم نفسه، أعلنت عائلة حداد عن عرض أسهمها في نادي إتحاد العاصمة، وقرّرت رسميًا التخلّي عن الفريق بعد تجربة دامت 12 سنة، ختمها بتتويج النادي بلقب الدوري الثامن في تاريخ نادي سوسطارة.
مع توالي محاكمات رجال الفساد فإن أسطورة رجل الزفت في الجزائر تقترب من نهايتها الحتمية
هذه القرارات ستتبعها أخرى دون شك، خاصّة بعد أن يتمّ النطق النهائي في قضية حداد المتّهم بتزوير وثائق إدارية وامتلاك جوازي سفر بطريق غير قانونية، جلسة المحكمة تم تأجيلها ليوم 17 حزيران/ يونيو، والنائب العام التمس عقوبة 18 أشهر حبس، ومع توالي محاكمات رجال الفساد أو "العصابة" بلغة الحراك الشعبي، فإن أسطورة رجل الزفت في الجزائر تقترب من نهايتها الحتمية في سيناريو مشابه لما حدث مع عبد المؤمن خليفة قبل سنوات.
اقرأ/ي أيضًا: