31-مايو-2019

الحراك الشعبي في الجزائر (ألترا صوت)

كانت ليلة الحادي عشر من آذار/مارس الماضي مفصلية في ما تعيشه الجزائر من أحداث، ففي تلك الليلة أعلن الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة سحب ملف ترشحه لعهدة خامسة، وألغى الانتخابات الرئاسية، طارحًا فكرة ندوة وفاق وطني تسبق استحقاقًا رئاسيًا لن يكون مرشّحا فيه، فخرج الآلاف ليلتها إلى الشارع للتعبير عن موقفهم إزاء هذا القرار، حيث اعتبره كثير منهم أولى ثمار الثورة السلمية.

حين كانت مراسلة قناة عربية تقول على المباشر "إن الجزائريين خرجوا للاحتفال بهذا الإنجاز" قاطعها شاب قائلًا "هذا ليس صحيحًا، نحن لسنا راضين، نريد أن "يتنحاو قاع"

لقد أطلق الشاب هذه العبارة، بلهجة جزائرية عامية ممزوجة بالغضب والعفوية، طلبت منه المذيعة التكلّم بالفصحى فكان ردّه: "أنا لا أتقن العربية، هذه هي دارجتنا".

اقرأ/ي أيضًا: صرخة "ما راناش حابسين" تحول طالبة إلى أيقونة للحراك

20 ثانية فقط

كان ذلك الشاب الثلاثيني، عاملًا بسيطًا في أحد محلات الوجبات السريعة، خرج مثل كثير من الشباب للتعبير عن  موقفه، فوجد نفسه صدفة داخل إطار الكاميرا في مواجهة مع الصحافية التي كانت تقول كلامًا يبدو أنه لم يُعجبه، وكانت عشرون ثانية من الظهور في بث مباشر، كافية لأن تُحوّل كلمة قالها في لحظة اندفاع، إلى أحد أهم الشعارات التي تبنّاها الحراك منذ انطلاقه، وتحوّله إلى نجم على مواقع التواصل الاجتماعي.

أطلّ الشاب سفيان بكير تركي، في وسائل إعلامية ليوضّح موقفه حول الحادثة، ويؤكّد أنه لم يكن يقصد إهانة اللغة العربية، بل أراد أن يوصل رسالة  فحواها "أن الدارجة الجزائرية يجب أن تنال حظها من الفهم والاهتمام".

لقد تحوّلت عبارة "يتنحاو قاع" والتي تعني "فليتنحوا جميعًا" من تصريح عرضي بمحض الصدفة، إلى كلمة أيقونية تم إسقاطها على جميع كثير من المواقف واليوميات والتعاليق على مواقع اتواصل الاجتماعي، وأصبحت مادة دسمة للحديث والدراسة عن مصدرها وفحواها وتشريح قوّتها الدلالية وإيحاءاتها.

إن المتابع للحراك الشعبي منذ جمعة الـ 22 من فبراير/شباط الماضي، سيدرك أن شعارات وهتافات المتظاهرين نوعان؛ أحدهما جاهز مستوحى من الأغاني التي يردّدها مناصرو فرق كرة القدم في مدرّجات الملاعب، ومنها شعاري "ماكاش الرايس كاين تصويرة" و"يونمار...عيينا من هذا البوفوار"  المقتبسين من أغنية لفرقة أولاد البهجة.

أما النوع الثاني من الشعارات فهو مبتكر، ويعبّر عن اليومي واللحظي، وغالبًا ما يحمل ردود أفعال سريعة اتجاه مواقف السلطة، إذ تتفاعل هذه الشعارات مع الأحداث ومتغيرات الساحة السياسية ومنه كانت شعارات  "ماكاش الخامسة يا بوتفليقة"،" جيبو البياري جيبو الصاعقة"، وبعدها "ما تزيدش دقيقة يا بوتفليقة"، "الشعب مربي والدولة خاينة" وصولًا إلى "يا قايد صالح الشعب ماشي جايح" وغيرها من الشعارات التي تتقاسم عاملي العفوية والإنتشار.

هذه الشعارات المبتكرة التي غزت لافتات المتظاهرين، وصدحت بها حناجرهم كانت متنوّعة تنوع أفكار ومشارب حامليها وأيديولوجياتهم، فكان منها المكتوب بالعربية الفصحى والدراجة الجزائرية والفرنسية والأمازيغية والإنجليزية، ومنها ما يمزج بين هذه اللغات في أحيان كثير، حيث ظهر جليّا أن الجزائر تعيش واقعًا لغويًا منفردًا، ميزته التنوع والتجاذب.لكن الملاحظ أن المهيمن في لافتات وهتافات الحراك كان الاستعمال الكثيف للغة الشعبية اليومية والتي تعارفعلى تسميتها اللغة العامية أو الدارجة.

من الشعب وإلى الشعب..

يقول الباحث في الثقافة الشعبية مهدي برّاشد، في حديث إلى ألترا جزائر "إن الشعارات والهتافات التي رفعها الجزائريون خلال مظاهراتهم طغت عليها اللغة العامية، ولم تستطع الشعارات والهتافات التي رفعت باللغة "الرسمية" العربية أو الفرنسية أن تصمد أمامها. فحتى المنتوج الإبداعي في الأغاني كان منتوجا شعبيا".

وبحسب برّاشد فإن  اللغة العامية والثقافة الشعبية التي كانت تعتبر هامشية مقارنة باللغة الرسمية وبالثقافة الرسمية، وأصبحت في هذا الحراك هي المركز وأصبح ما كان رسميًا هو الهامش. وهذا دليل على أن اللغة تكسب قوّتها من السلطة التي تمّدها بالقوّة وتفرضها على حدّ قوله.

هي مرحلة فارقة استطاع فيها الشعب إسقاط السلطة ممثلة في الرئيس بوتفليقة ومحيطه بحسب براشد، مستطردًا أن الشعب أسقط الرسمي، على الأقل في ميدان الحراك، وفرض لغته وثقافته. بل إن المتعلّم والمثقف الذي كان يستعمل اللغة الرسمية بشكل واسع لمقتضيات نشاطه العلمي أو الثقافي أصبح يردّد عبارة: "الشعب حرّرنا" وكأنه ليس من الشعب.

يرى صاحب "معجم العامية الدزيرية بلسان جزائري مبين"، أن الحراك في لحظة تمظهره حالة وجدانية انفعالية، ومن ثمة فهي حالة لن تجد قاموسها في اللغة الرسمية بل في اللغة اليومية التي يعيش بها الجزائري ويتعامل بها، يحب بها ويكره بها، يمدح بها ويشتم بها. ولا يمكن أن تكون هناك لغة مواتية لهذه الحالة الوجدانية من اللغة الأم وهي اللغة العامية.

وجد الجزائريون على اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية والطبقية في الدارجة اللغة الصادقة غير المداهنة لغة راديكالية رفعت سقف المطالب بشكل أحرج السلطة

لقد كانت عبارة "يتنحاو قاع" منعرجًا هامًا في تطوّر الحراك الشعبي؛ حيث بيّن للجميع أن مطلب الملايين الذين خرجوا إلى الشارع في جمعات متتالية، إنّما هو إقتلاع النظام من جذوره وليس تغييرًا سطحي لا يؤثر في الأشياء مهما اتسع.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أثر الحراك على التلفاز.. البرامج السياسية تتفوق على الدراما في رمضان

الحراك يمنح البريد المركزي تاريخًا جديدًا.. والسلطات تصادره من الشعب