في الطريق المؤدية نحو مدينة الأربعاء ناث إيراثن بولاية تيزي وزو شرق العاصمة، لن ترى أينما وليّت وجهك سوى أطلال دخان وبيوت سوداء وأشجار متفحّمة وحطام سيارات. ريح ساخنة تلفح الأبدان وأنفاس يخنقها اللهب والرماد. قرويون يسابقون الوقت لإنقاذ ما تبقى من ممتلكاتهم، وعائلات قضت ليلتها على حافة الطريق، لقد تحوّلت مدينة عبان رمضان إلى قطعة من جهنم في ليلة واحدة.
لم يكن سكّان قرية إيخليجن يعلمون أن قريتهم الصغيرة ستعيش يومًا يُدفن فيه الناس في ما يشبه مقابر جماعية
فقدت كل شيء
"ليس من السهل أن تشيّد بيتًا وسط تضاريس صعبة كهذه، صخورٌ صمّاء تحيط بك من كل جانب، ستستغرق سنوات من العمل. هنا، يتوجب عليك بناء ستة طوابق للوصول إلى الطريق العام، كنا نحمل مواد البناء على ظهورنا، الشاحنات لا يمكنها الوصول إلى الأسفل، أزيد من أربعين عامًا ذهبت أدراج الرياح في أقل من نصف ساعة"، بهذه الكلمات يصف السبعيني موسى مصيبته بعد أن وقف دون أن يقوى على فعل شيء أمام صورة منزله العائلي وهو يحترق.
اقرأ/ي أيضًا: الرابطة الحقوقية تتابع أشخاصًا أطلقوا تصريحات "عنصرية"
بعد ثلاثة أيام، يعود العمّ موسى رفقة ولديه، ليلملم ما تبقى من ذكريات في المنزل الذي شيّده بمدخّرات العمر، يعود ليتفقد ما تبقى من ذلك اليوم الأسود الذي عاشته الأربعاء ناث إيراثن، لقد فقدت قرية واحدة هنا أزيد من سبعة وعشرين من أبنائها الذين توفوا جراء الحرائق التي حاصرت القرية، فيما يتواجد أزيد من خمسين شخصًا من سكان القرية في المستشفى.
يقول العم موسى في حديث إلى "الترا جزائر"، لقد "تحول بستان منزلي الأخضر إلى مساحة رمادية جرداء، كنت داخل المنزل لما اشتعلت النيران، قدم متطوعون من القرية ليأمرونا بترك منازلنا والتوجه إلى أعلى القرية، أخرجت سيارتي وحملت معي وثائقي وما تبقى لي من مال في المنزل وغادرت رفقة زوجتي".
يواصل العم موسى قصته "لم يكن من السهل أنا أرى منزلي يحترق في فيديوهات انتشرت على فيسبوك، ألمني كثيرًا مشهد احتراق مقبرة العائلة وكأن القدر أراد أن يتقاسم الأموات المصائب مع الأحياء(..) أبلغ من العمر سبعين عامًا.. هذا أفظع ما رأيته في حياتي".
"بقرة اليتامى" تعود من جديد
كان يوم التاسع من آب/أوت يومًا أسودًا على عائلة فكير بقرية ثاخليجث بمدينة آث يني، لم تنج القرية من ألسنة النار التي تلتهم الأخضر واليابس، فرّ مجيد وعائلته وترك وراءه كل ما يملك، لقد اشتعلت النيران في منزله وفي المبنى المجاور الذي كان يضم مصدر عيشه. أبقار كان يرعاها ويبيع حليبها ليعيل نفسه وأفراد عائلته.
يروي مجيد فكير لـ "الترا جزائر" بنبرة عامرة بالحزن "هذا هو مصدر رزقي الوحيد، تربية الأبقار هي المهنة الوحيدة التي أجيدها، أنا الآن بلا منزل وبلا مصدر عيش، انهار كل ما بنيته في سنوات وسيكون من الصعب أن أبدأ مجددًا من الصفر، حتى سيارة الـ (404) التي أستعملها لنقل الحليب وقضاء حاجياتي احترقت، لقد أصبحت مكبّل اليدين فعلًا".
يطلق مجيد نداء استغاثة، مقرًّا أنه من المستحيل أن يُعيد بناء نفسه لوحده "أطلب من المحسنين أن يساعدوني كي أعود لحياتي الطبيعية، لا أستطيع تصوّر نفسي خارج هذه المهنة، لقد غادرت المدرسة في الطور الابتدائي، من أجل مساعدة والدي، لقد ورثت أنا وإخوتي هذه المهنة، لنجد أنفسنا اليوم لا نملك دينار واحدًا، لا نملك قوت يومنا، إنها الكارثة".
إيخليجن.. رائحة الموت في كل مكان
لم يكن سكّان قرية إيخليجن في مدينة الأربعاء ناث إيراثن بولاية تيزي وزو، يعلمون أن قريتهم الصغيرة ستعيش يومًا يُدفن فيه الناس في ما يشبه مقابر جماعية، بعض العائلات فقدت أزيد من ستة أفراد ، فيما تبقى الصورة التي ستعلق في الأذهان صورة الرضيعة التي احترقت رفقة والديها بعد أن حاصرت النيران منزلهم وأصبحت كل منافذ البيت تؤدي إلى موت محقق، لقد راح 27 شخصًا ضحية لأكبر موجة حرائق عاشتها الجزائر منذ الاستقلال.
عُثر على جثّتي الشقيقتين صارة وجوهر بن سالم متفحمتين وهما متشبثتين بجثة والدتهما التي تفحّمت أيضًا
في هذه القرية أيضًا، عثر على جثّتي الشقيقتين صارة وجوهر بن سالم متفحمتين وهما متشبثتين بجثة والدتهما التي تفحّمت أيضًا، فيما فقدت عائلة إغموراسن ستة من أفرادها، وثلاثة أفراد من عائلة أمالو، بينما كان نصيب عائلة عبديش خمس وفيات في يوم انتشرت فيه رائحة الموت في القرية الصغيرة التي كانت تنام في هدوء تحت سفح جبل جرجرة.
اقرأ/ي أيضًا:
قضية جمال.. القبض على 36 مشتبهًا فيه واعترافات بارتكاب الجريمة
مثقفون يرفضون استعمال جريمة قتل جمال لنشر الكراهية