30-يناير-2020

فرنسا تكتّمت على ملف جماجم الشهداء (الصورة: لو باريزيان)

شبّه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الجرائم التي قامت بها بلاده خلال احتلالها الجزائر، بـما حدث في"المحرقة النازية"، فهل كان هذا التشبيه الذي أثار حفيظة اليمين في فرنسا بريئًا ومنصفًا لمعاناة شعب دامت 132 سنة؟ أم أنه تهرّب من مسؤولية لا تسقط بالتقادم، خاصّة وأن حادثة "الهلوكوست" مازالت حتى اليوم محلّ تشكيك عدّة أطراف؟

ظلّ ماكرون في طريقه للوصول إلى قصر الإليزيه حريصًا على مواضيع الذاكرة والهوية

منذ أن سار ماكرون للوصول إلى قصر الإليزيه، ظلّ حريصًا على مواضيع الذاكرة والهوية، خاصّة ما تعلّق منها بفترة الاحتلال  الفرنسي في الجزائر، ولكن السؤال الذي يُطرح اليوم، لماذا تجنّب ماكرون الحديث عن جرائم الاستعمار وهو يهنئ الشعب الجزائري بعيده الوطني قبل أشهر قليلة من الآن، وتذكّر ذلك في ذكرى الهولوكوست، أثناء عودته من دولة الاحتلال؟

اقرأ/ي أيضًا: ماكرون "المتحايل الكبير".. شبكات سريّة في الجزائر

جدل في فرنسا

قال ماكرون الأسبوع الماضي، وهو على متن الطائرة التي أقلته من الكيان الإسرائيلي، أين شارك في احتفالات الذكرى الـ 75 لـ "المحرقة النازية"، إنه مقتنع بأنّ على فرنسا أن تعيد النظر في ذكرى حرب الجزائر ( مثل ما تسميها فرنسا)، وذلك "لوضع حدٍ لصراع الذاكرة الذي يعقّد الأمور داخل فرنسا".

وأضاف ماكرون: "أنا واضحٌ جدًا بشأن التحدّيات التي تواجهني كرئيس من منظور الذاكرة، وهي تحديات سياسية. الحرب الجزائرية هي بلا شكّ أكثرها دراماتيكية.. أنا أعرف هذا الأمر منذ حملتي الرئاسية.. وهو تحدٍّ ماثلٍ أمامنا، ويتمتّع بالأهمية نفسها التي كان ينظر بها شيراك عام 1995 لمسألة المحرقة النازية".

يُشار أن شيراك، الرئيس الفرنسي السابق عام 1995، قال إنّ بلاده مسؤولة عن ترحيل اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية. غير أن تصريح ماكرون، لم يمرّ مرور الكرام، فقد ثارت ثائرة اليمين في فرنسا دفاعًا عن اليهود، ورفضًا لأي اعتراف بشأن استعمار الجزائر، حيث قالت رئيسة حزب التجمّع الوطني مارين لوبان، إن "مقارنة المحرقة النازية بحرب الجزائر بذاءة"، معتبرةً أن ذلك دليل على أنّ "إيمانويل ماكرون في تخبّط تام". وبدوره، قال النائب في البرلمان الأوروبي عن حزب الجمهوريين فرانسوا كزافيي بيلامي، إن تصريحات ماكرون "غير لائقة تمامًا. هذه التصريحات في الآن ذاته حماقة في حقّ التاريخ والذاكرة، وقنبلة موقوتة تهدّد مستقبلنا".

مراوغة سياسية

يبدو أن ماكرون نفسه، لا يريد الذهاب إلى هذا الحدّ من الاعتراف بجرائم فرنسا في الجزائر، التي لا زالت تبعاتها مستمرّة حتى اليوم، حيث سارعت الرئاسة الفرنسية إلى نفي أيّ تأويل لتصريحاته.

وعبّر قصر الإليزيه، عن رفضه القاطع لمقارنة "الهولوكوست" بـ "حرب الجزائر"، مذكرًا في هذا الإطار بتصريحات ماكرون السابقة التي زعم فيها أن "الهولوكوست جريمة مطلقة، لا يمكن مقارنتها بأي جريمة أخرى".

لا يعدّ اللعب على وتر الذاكرة جديدًا على ماكرون، فالرجل الذي اعتبر عام 2017، لدى زيارته الجزائر خلال حملته الانتخابية، الاستعمار "جريمة ضدّ الإنسانية"، لم يعد إلى ترديد هذا الوصف مجدّدًا، كما لم يُترجم تصريحاتِه بعد وصوله إلى قصر الإليزيه بقوانين ونصوص تتناغم مع ما قاله سابقًا.

لم يلتزم ماكرون فيما يخصّ الجزائر، حتّى بالاتفاقات التي تمّ التفاهم بحولها، لما زار الجزائر بشأن إرجاع الأرشيف الجزائري، وتسليم جماجم الشهداء الجزائريين، الموجودة بمتحف الإنسان في باريس إلى الجزائر.

من جهته، أعلن وزير المجاهدين الجزائري الطيّب زيتوني في كانون الأول/ديسمبر الماضي، عن توقف المفاوضات مع إدارة الرئيس ماكرون لاسترجاع جماجم الشهداء من قادة المقاومة الجزائرية، والأرشيف الجزائري الموجود في فرنسا.

وقال زيتوني إن "فرنسا تدّعي بأنھا بلد الحقوق والإنسانية، إلا أنه لدينا جماجم شھداء عمرھا أكثر من قرن ولم تُسلم بعد، رغم كل الإجراءات".

وأوضح زيتوني، أنّ الجزائر سلّمت فرنسا طلبًا مكتوبًا، وقعته "أنا شخصيًا، ووقّعه معي وزير الخارجية السابق عبد القادر مساهل، وقد تم تسليمه للسفير الجزائري بباريس، الذي سلمه بدوره لوزير الخارجية الفرنسي"، لكن كلّ هذه الإجراءات لم تحرّك باريس لطيِّ هذا الملفّ نهائيًا.

أمّا الكاتب الصحافي محمد لهوازي، فقال في حديث إلى "الترا جزائر"، إنّ ماكرون يُطلق في كل مرّة تصريحاتٍ بخصوص ملفّ الذاكرة مع الجزائر، ضدّ خصومه داخل فرنسا دون أن يتبعها بخطوات ميدانية، "وسرعان ما يتراجع حماسه بضغط من أحزاب اليمين".

ولفت لهوازي إلى أن "الكلّ يتذكّر تصريحاته، أثناء حملته الانتخابية عام 2017، عندما قال إن استعمار فرنسا للجزائر كان "جريمة ضد الإنسانية"، لكنّه تراجع عن تصريحاته مقترحًا موقف "لا إنكار ولا توبة" بشأن تاريخ فرنسا الاستعماري، منبهًا إلى ضرورة ألا نبقى أسرى الماضي.

تقليل من شأن الجرائم

بالنسبة للجزائريين، فإن تشبيه ما ارتكبه الاحتلال الفرنسي طيلة 132 سنة في بلادهم، والذي أدّى إلى استشهاد 8 ملايين جزائري طيلة هذه المدّة، بالمحرقة النازية، ليس اعترافًا بالذنب الفرنسي، وإنما تقليلٌ من حجم جرائم باريس البشعة في الجزائر، وتنصلٌ من مسؤولياتها التاريخية.

هنا، يستطرد محمد لهوازي، إن الشيء المؤكّد أن جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، طيلة فترة الاحتلال، فظيعة جدًا، راح ضحيتها ملايين الأشخاص، وأتت على كل ثروات الجزائر، وبقدر بشاعة النازية، فإنه لا مجال للمقارنة بين الحالتين".

واعتبر لهوازي أنّ "هذا التشبيه انتقاص من مسؤولية فرنسا عن الجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتكبتها في الجزائر، والتي يجب أن تعترف باقترافها وتحاسب عليها".

صمت جزائري

في الجزائر، لم يكن لهذا التصريح من ماكرون أو من توضيح الإليزيه وقعٌ لدى الجزائر الرسمية، حيث لم يعلّق أي مسؤول على هذه التصريحات، حتّى المنظمات المدنية المرتبطة بتاريخ الجزائري كمنظمتي المجاهدين وأبناء الشهداء، لم يُسمع لها صوت بشأن هذا التشبيه الغريب.

ولكن حتى ولو كان هناك ردّ فعل من قبل السلطات الجزائرية، فيبدو أنه صار غير مقنعًا في الشارع الجزائري، الذي يعتقد أن أحسن رد يكون بتفعيل مشروع قانون تجريم الاستعمار، الذي أجهضه نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.

ولا يتأمّل الصحافي محمد لهوازي، في تصريحه لـ"الترا جزائر"، كثيرًا من إقدام السلطات الجزائرية على هذه الخطوة، لأنه يعتبر أن موقفها حول قانون تجريم الاستعمار، يتّسم بـ"الضبابية وعدم الوضوح، ويبقى حبيس تصريحات بعض المسؤولين".

يبقى ملفّ الذاكرة في نظر ماكرون ورقة يستعملها للمناورة في كسب ودّ الناخبين من أصول جزائرية

وفي انتظار أن تخطو الجزائر هذه الخطوة، يبقى ملفّ الذاكرة في نظر ماكرون ورقة يستعملها "للمناورة في كسب ودّ الناخبين من أصول جزائرية، خصوصًا وهو على بعد سنتين فقط من إجراء الانتخابات الرئاسية الفرنسية"، يُضيف محدّث "الترا جزائر".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

تصريحات ماكرون تفتح جرح الماضي بين فرنسا والجزائر

بنجامين ستورا: ماكرون يريد تسوية ملف الذاكرة مع الجزائر