05-مارس-2019

تظاهرة طلابية في العاصمة الجزائر (رياض كرمادي/Getty)

شكّلت مشهدية اعتمار شوارع المدن الجزائرية في صيف 1962 بأبناء الجزائر، مصفقين هاتفين احتفالًا بإغلاق صفحة 130 سنة من الاستعمار والفرنسة، نزوعًا مستقبليًا تحرريًا عند قطاع واسع مما كان يعرف آنذاك شعوب العالم الثالث. بل شكلت تلك اللحظة الجزائرية مخزونًا هامًا في سرديات وأوتوبيات الشعوب المستعمرة في موزامبيق والكونغو وجنوب أفريقيا وفيتنام، وبلا أدنى شك في فلسطين وخلافها الكثير.

لا يمكن وضع رفض العهدة الخامسة في قمقم المطلبية المرهونة بتطبيقات الديمقراطية التمثيلية. بل يأتي بداعي استشعار ضرورة إعادة النظر في أكثر من نصف قرن على الاستقلال الوطني

أما الجزائريون أنفسهم آنذاك، فكانت يد تصفق للتحرير والسيادة الوطنية المستعادة، نتاج تراكم مقاوماتي عميق انتهى لسبع سنوات من حرب تحرير موسعة، وأخرى تصفق لأوان بناء مجتمع جديد، تلتمس فيه العدالة والتنمية الوطنية وتملك الموارد العملاقة التي تحوزها الجزائر والقطع مع خيالات وفانتازيات الفرانكفون غير المسلية.

اقرأ/ي أيضًا: التفكير في حراك 22/2 الجزائري

لكن الخيبات تأتي لاحقًا، وبالجملة. وهذا ما لم يختص بالشريط الجزائري حصرًا، إنما بالمسرح العالمثالثي بمجمله، ومن ضمنه دولة الاستقلال الوطني العربية بتنويعاتها وجغرافياتها. عوضًا عن الانعتاق والتحرر أتت دولة الاستقلال بالعسكرة والأوليغارشية وبناء الجماعات المصلحية داخل تنظيم السلطة/الدولة وحوله. هذا بالتأكيد ليس بالدفع الذاتي وحده، إنما لجهود صندوق النقد الدولي والكتل السياسية الناشئة غربيًا ضمن "نيوديل" ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإعادة إنتاج الإمبرياليات أدوار فيه أكبر وأوضح من أن يتم تجميلها أو التعمية عنها.

بعد أكثر من نصف قرن على الاستقلال الوطني الجزائري، يقف قطاع وازن وهام من الشارع الجزائري وكتلته الانتخابية منذ أيام أمام ما لم ينجز من سؤال الاستقلال نفسه ومشتقاته. أي أمام ما اجتمع عليه التصفيق لدولة الاستقلال الوطني عند تحصيلها. الدولة المدنية ومجتمع المواطنين والعدالة الاجتماعية بما تتضمن من ارتهانات آنية كالتشغيل والبطالة والتعليم وواقع عشرات الولايات البعيدة أو المتسبعدة من العاصمة الجزائر.

صحيح جدًا، أن ما قدر بحوالي 4 مليون متظاهر اجتمعوا على رفض العهدة الخامسة للرئيس الحالي ذي العهدة الرابعة، عبد العزيز بوتفليقة- ندعو له بالشفاء والزهد بالسلطة. لكن فيما يعبر عنه رفض العهدة الخامسة لا يمكن أن يحشر في قمقم المطلبية المرهونة بتطبيقات الديمقراطية التمثيلية. إذ إن جانبًا أساسيًا وجليًا من رفض العهدة الخامسة لا يتعلق فقط بما تمثله من خرق دستوري وتعد على قيم الجمهورية، وعلى الانطلاق نحو جمهورية ثانية حتى، وهي أحد الأوراق التي يلعبها محيط بوتفليقة وإن متأخرًا. بل يأتي مثل هذا الرفض أيضًا من باب جردة الحساب، ومن باب استحضار المساءلة الغائبة، ليس فقط لعقدين من البوتفليقية، سعيد وعبدالعزيز، إنما أيضًا بداعي استشعار ضرورة إعادة النظر في أكثر من نصف قرن من الاستقلال الوطني. بما فيه "العشرية السوداء" التي تدأب بطانة المجموعة الحاكمة في الدولة الجزائرية على استحضار أهوالها والتهويل بها، في نسخ مبتذل لمصفوفة الاستبداد العربي، "إما الزعيم/العسكر  أو الإرهاب"، وهي محورة أساسًا من إما "المستبد أو المستعمر". وفي هذا ابتسار للقائم فعلًا على أكتاف جمهور دولة الاستقلال العربية، متسببًا بإدمائها بأثمان عملاقة، أي "الزعيم والإرهاب" سويًا، دون حياد الاستعمار، للسخرية!. إذ ربما يكتفى بالمثال الفرنسي الذي صمت 20 سنة عما لديه من حقائق تدين بوتفليقة ومجموعة الحكم حوله، ليبدأ مؤخرًا، عبر محاولة بائسة للتبرؤ، بتسريب تلك الأكداس من الوقائع الموثقة.

 أمام الجزائر اليوم إمكانية قوة ضرب المثل من جديد، كما شكلت مشهدية في تفكيك الاستعمار

اقرأ/ي أيضًا: الدولة العميقة.. "مؤامرة" بلا متآمرين

برغم كل الخيبات والمزالق، أمام الجزائر اليوم إمكانية قوة ضرب المثل من جديد، كما شكلت مشهدية في تفكيك الاستعمار. يمكن اليوم لشوارع الجزائر، ومعها شوارع السودان نسبيًا، أن تعيد النقاش إلى صوابه بشأن إخفاق الانتفاضات العربية قبل 8 سنوات، ذلك الإخفاق غير المتعلق بالأخلاقية ولا "الصوابية" بقدر ما هو ابن فواعل قصور تنظيمي وتقصير في قراءة الواقع رفقة تحالفات بنيوية رديئة وحرب خنادق حسمت قبل التخندق.

لذلك، ربما من المفيد للتحركات الشعبية التي تبدو أنها ما زالت في طور التوثب في الجزائر، النظر بعين التواضع والألفة نحو المتوقع وغير المتوقع من الفواعل. كما هو الالتفاف على التلويح بإرث "العشرية السوداء" عبر ترسيخ السلمية، ممارسة وشعار.كما يستأهل الانفتاح على الجزائريين في الخارج والتفاعل مع تحركاتهم التي لم تتأخر في الاستجابة للداخل. خصوصًا أن البروباغندا البوتفليقية تأخذ على هؤلاء، حتى من كانوا أصدقاءها بالأمس القريب، تواجدهم في المنافي، كأن واقع السلطة والمعاش الجزائري ليس هو من دفع بهم إلى هناك أساسًا. إضافة للقوى السياسية المتنوعة التي بدأت تنتبه إلى قيمة الحراك الحالي لمصالحها عبر الانسحابات المتعاقبة من العملية الانتخابية. بينما يجدر الانتباه "التكتيكي" للمحركات القائمة داخل النظام لا داخل المجموعة الحاكمة، ولها مصلحة في معارضة العهدة الخامسة. هي ليست هينة بالمناسبة، ما بعد بوتفليقة، ضمانًا للسلمية في طريق حرب الحركات المرجح أن يطول، حتى الوصول إلى حلبة المواقع بأقل تهديدات ممكنة ولأضيق قطاع ممكن من الكتلة الجزائرية الكاملة.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

3 سيناريوهات جزائرية معلّقة بين الشارع و"الدولة العميقة"

انسحابات جديدة من انتخابات بوتفليقة وبرلمانه وحزبه.. العزلة تتأكّد