29-فبراير-2024
السيادة الرقمية

وزير الاتصال محمد لعقاب (الصورة: فيسبوك)

تتعالى في الجزائر الأصوات المنادية بضبط  المحتوى الرقمي الموجه للجزائريين، بالنظر لتجاوز جزء منه كل الخطوط الأخلاقية والمجتمعية والإنسانية، وهو ما جعل الحكومة تفكر في صناعة منتوج جديد يراعي تقاليد وعادات البلاد، فهل يمكن تحقيق هذا الهدف في عالم أصبح لا يعترف بأي قيود؟.

عبد الحق بحري لـ"الترا جزائر": عملية ضبط صناعة المحتوى يجب أن لا تكون مطية للحد من حرية النشر في الفضاء الافتراضي

ورغم أن هذه الدعوات ليست بالجديد على الأقل من طرف النشطاء والتربويين، إلا أنه لأول مرة تبدي جهات رسمية سعيها لتحقيق هذا الهدف الذي ليس من السهل بلوغه بالنظر للتأخر المسجل جزائريا في هذا المجال، ووجود منافسة عالمية لا يمكن مجاراتها.

هادف

أعلنت المحافظة السامية للرقمنة الوزيرة مريم بن مولود قبل أيام عمل مصالحها على صناعة وترقية محتوى رقمي وطني لاسيما باللغة العربية، ليتماشى مع المبادئ والتقاليد الثقافية والاجتماعية للمجتمع الجزائري.

وشددت بن مولود في كلمة قرأها نيابة عنها الأمين العام للمحافظة، عبد الرزاق غليس، خلال الملتقى الوطني حول "البصمة اللغوية لمستخدمي لغة الضاد في العالم الرقمي" المنظم مؤخرا على ضرورة تكاثف الجهود لتعزيز مكانة اللغة العربية في مجال الرقمنة وتبادل الخبرات من أجل تطوير محتوى رقمي ثري وهادف، مع ترسيخ الثقافة الرقمية في المجتمع الجزائري، لاسيما لدى الشباب عبر تبنّي مقاربة تشاركية وتشاورية مع مختلف الفاعلين والأطراف المعنية بتجسيد مسار التحول الرقمي.

ومن بين المشاريع التي يتم العمل عليها إعداد قاموس للمصطلحات الرقمية باللغة العربية، وإنشاء مدونات تعليمية وتشجيع الحضور الفعّال للمثقفين الباحثين والمفكرين الجزائريين عبر المنصات التفاعلية الرقمية لتعزيز المحتوى الرقمي باللغة العربية.

وفي حديثها عن التأخر في هذا المجال، أشارت بن مولود إلى توجه مستخدمي مواقع الانترنت إلى استخدام الحروف اللاتينية بدل العربية في التعبير عن أفكارهم

وسبق لوزير الاتصال محمد لعقاب أن صرح سابقا أن السيادة الرقمية "أصبحت تتصدر أجندة الدولة الجزائرية، وهذا شيء إيجابي ومشرف"، مبينا أن تحقيقها "يستدعي تكاتف جهود الجميع"، باعتبارها "عملية شاقة ومكلفة".

تصحيح لفوضى؟

وقال أسامة مبروكي المهتم بتحليل مضمون شبكات التواصل الاجتماعي لـ"الترا جزائر" إن هذه الخطوة لا بد منها لإنهاء الفوضى التي تطبع مجال صناعة المحتوى في الجزائر الذي يطغى عليه المضمون الذي  بلا فائدة على حساب المحتوى الهادف، وبالتالي فإن الميدان يحتاج إلى ضبط.

وبدوره، قال مهندس الإعلام الآلي عبد الحق بحري لـ"الترا جزائر" إنه كجزائري يرى في هذه الخطة أمرا ضروري للحد من انتشار "المحتوى التافه"، بالنظر إلى أن توفر مختلف الوسائل اليوم من مدونات ومواقع التواصل الاجتماعي سمح للجميع بنشر محتواه دون الاهتمام بما يتضمنه.

لكن في الوقت ذاته، يوضح بحري أنه كمهني في هذا المجال يرى أن  عملية ضبط صناعة المحتوى يجب أن لا تكون مطية للحد من حرية النشر في الفضاء الافتراضي، بالنظر إلى أن الصورة ليست قاتمة على كل المستويات، لافتا إلى وجود محتوى هادف ومفيد، فوسائل التواصل الاجتماعي أعطت الفرصة أيضا للكثيرين لتقديم منتوج محترم في الاقتصاد والطب والتربية والتكنولوجيا، والذين يحضون بمتابعة محترمة من الجزائريين.

ولحد اليوم لا تتوفر إحصاءات دقيقة ورسمية بشأن عدد الجزائريين النشطين في صناعة المحتوى، بالرغم من تنظيم تظاهرات باسمهم، واستمرار عملهم في مجال يصفه البعض أنه شبيه بالأسواق الموازية الموجودة في كل مدينة من البلاد.

لكن تقرير "ديجيتال 2024" للمكتب العالمي "داتاربورتال" المتخصص في الإحصائيات الخاصة بالإنترنيت الثابت و النقال في جميع أرجاء العالم المنشور في 13 شباط 2024، كشف أنه على غاية كانون الثاني جانفي الماضي يوجد 24.85 مليون جزائري لهم هوية على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما يعادل 54.1 بالمئة من العدد الإجمالي سكان الجزائر.

ويشير التقرير ذاته إلى وجود 24.85 مليون جزائري مشترك في فيسبوك، و22.8 مليون مستخدم ليوتيوب، و11.4 مليون لإنستغرام، و17.42 مليون لتيك توك، و16.4 مليون لميسنجر، و3.9 مليون للينكدإين، و7.88 لسنابشات، و1.24 مليون جزائري فقط مشتركين في منصة "إيكس" (تويتر سابقا)

مسألة وسائل

بالنسبة لوزير الاتصال محمد لعقاب، فإن تحقيق السيادة الرقمية التي يرافع لها تتطلب أولا مختلف الوسائل الكفيلة بتحقيق هذه السيادة الواجب توفيرها.

و شدد لعقاب هنا على ضرورة "المبادرة والاجتهاد للوصول إلى تصنيع الوسيلة الرقمية وكذا صناعة المحتوى، وتركيز الجهود على تحصين المواطن من مخاطر المعلومات المغلوطة عبر الفضاء الأزرق".

لكن المهندس في الإعلام الآلي عبد الحق بحري ينظر إلى مسألة الوسائل من جهتين، فمن ناحية توفر منصات تقديم محتوى رقمي جزائري يحترم عادات وتقاليد وأولويات البلاد الأمر متاح للجميع عبر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة للجزائريين كغيرهم من سكان المعمورة، اما من ناحية ضبط هذا المحتوى فالأمر يحتاج إلى جهد آخر.

وأشار بحري إلى أن هذا الضبط يتطلب بالضرورة وجود فروع لمختلف مؤسسات التواصل الاجتماعي المختلفة مثل ميتا وإيكس وتويتر وغيرها، وذلك لرسم إطار يمكن فيه لهذه المؤسسات العالمية  النشاط فيه وفق النظرة الجزائرية مثلما هو الامر في عدة دول كالولايات المتحدة أو أوروبا، وهو ما ليس متوفر حاليا، لذلك على الحكومة في حال لم تستطع القيام بالخطوة الأولى السعي لصناعة منصة جزائرية مثلما فعلت الصين التي تمكنت من  توفير منصات محلية بديلة على سبيل المثال لفيسبوك المحجوب بترابها.

لكن أسامة مبروكي يرى أن صناعة محتوى رقمي جزائري يوائم ثقافتها وتقاليدها مرتبط بالدرجة الأولى بالجانب القانوني والإجرائي، مشيرا إلى أن الحكومة تقوم على سبيل المثال بمساءلة وسائل الإعلام وبالخصوص القنوات التلفزيونية عما تبثه عبر سلطة ضبط السمعي البصري، وهو الأمر الذي يجب أن يطبق على المؤثرين وصناع المحتوى في الجزائر.

وأشار إلى أن الحكومة لن تخترع شيئا جديدا، بل إنه يمكنها الاستفادة من تجارب دول أخرى التي نظمت هذا القطاع وجعلت الناشطين فيه ينتسبون إلى المهن المرتبطة بصناعة المحتوى، وبالتالي إمكانية مراقبة ما ينشرونه وما يحصلون عليه من مال عبر دفعهم لضرائب تتلاءم مع عائداتهم.

أما عبد الحق بحري فيؤكد بدوره بأهمية القوانين في تنظيم مجال صناعة المحتوى وحماية من ينشطون به، مشددا في الوقت ذاته على أن لا يكون هدف التشريع العقاب والحد من حرية الإبداع إنما الرقي بنوعية المحتوى الذي يستهلكه الجزائريون.

ومع التزايد المستمر لانغماس حياة الجزائريين في العالم الافتراضي وبالخصوص مواقع التواصل الاجتماعي، لم تعد عملية ترتيب صناعة المحتوى الموجه للجزائريين مجرد خيار فقط، إنما حتمية يجب التعجيل بتنفيذها قبل فوات الأوان.