30-أغسطس-2022
اجتماع أعضاء جمعية العلماء المسلمين بنادي الترقي (فيسبوك/الترا جزائر)

اجتماع أعضاء جمعية العلماء المسلمين بنادي الترقي (فيسبوك/الترا جزائر)

أسفل مدينة القصبة، تحديدًا وسط شارع الساحة الشهداء، تقع بناية على الطراز العمارة الفرنسية، شُيّدت إبان فترة إعمار الجزائر من طرف الإدارة الاستعمارية، تَطل العمارة على الواجهة البحرية، مقابلة لمئذنتي أعتق مسجدين بالعاصمة، هما الجامع الكبير والجامع الصغير، وفي الطابق العلوي للمبنى وفي إحدى شرفاته عُلقت لافتة مذهّبة كتب عليها بالخط العربي "نادي الترقي".

احتضن النادي حوار الأديان شارك فيه كل من ابن باديس والميلي والشيخ العقبي، وجماعة من المسيحين مثل الكاتب مسيو بيرني، وجماعة من المتدينين اليهود منهم الدكتور غزلان

نتيجة إعادة ترميم البناية، تنقل مقر النادي إلى شارع بن عزون بالعاصمة، ومنذ فترة غير طويلة، قرّرت السلطات الولائية إعادة الجمعية إلى مقرها الرئيسي والتاريخي، المقر الذي شهد الميلاد الأول لجمعية "نادي الترقي"، فما في قصة نادي الترقي وماهي وظروف تأسيسه؟وما دور الجمعية في الحفاظ على الهوية الوطنية وتنشيط الحركة الجمعوية والثقافية والخيرية؟

فكرة تتحول إلى جمعية

في سياق الموضوع، ورغم إخفاقات وانكسار المقاومات الشعبية أمام التقنية العسكرية الفرنسية، لم تنقطع النخبة الوطنية في النضال سياسيًا ومجتمعيًا من أجل استعادة الحقوق واسترجاع الكرامة والحرية، وفي إطار المقاومة السليمة أُنشأت جمعية أهلية وتَأسست نوادي وأحزاب وأُصدرت صحف محلية ذات بعد وطني.

ففي سنة 1926 اجتمع مثقفون وعلماء وتجار من العاصمة، في إقامة السيد محمد بن المرابط أحد كبار التجار بالعاصمة، صحبة كل من مماد المنصالي، وعائلة المنصالي من أعرق وأغنى العائلات بالجزائر، تنحدر منها السيدة أنسية بومدين حرم الراحل هواري بومدين، كما شارك في اللقاء الأخوان عمر وإبراهيم الموهوب مالكا شركة للتبغ، وأفراد من عائلة بن التركي، ومحمد وليد زميرلي، ومحمود بن صيام وحسان حافيز وبعض الإخوان.

 تناول الجمع خلالها فكرة تشكيل جمعية ثقافية لها أبعاد وطنية، واتفقوا أن يكون مقر الجمعية متميزًا ومعلمًا يتوسط الأحياء العربية والأوروبية، مع إعداد قانون أساسي يتوافق مع قانون الجمعيات الصادر في سنة 1900، دون المساس بالهوية الجزائرية المسلمة.

وفي الثالث من شهر تموز/جويلية سنة 1927 تفاجأ المارة بوسط الحي الأوروبي الواقع بساحة الحكومة، بلافتة كبرى مكتوب عليها بالحرف العربي "نادي الترقي"، وتم اعتماد وضع مصحف مفتوح في مكان الصليب وهو شعار الرسمي لمدينة الجزائر آنذاك.

وأسندت الرئاسة إلى السيد عمر إسماعيل الزواوي، وكان كاتب اللجنة الشيخ توفيق المدني وأمين المال محمد بن مرابط، وأمام جمع غفير ألقى توفيق المدني أول محاضرة بالنادي ضمت زبدة المطالب الوطنية والمتمثلة في الدفاع عن الهوية الجزائرية، والوحدة الوطنية ولم الشمل والابتعاد عن التفرقة، وأول من رفع الشعار: الإسلام ديننا، اللغة العربية لغتنا والجزائر وطننا، كان خلال خطبة توفيق المدني بالنادي الترقي.

وفي اليوم الثالث من افتتاح النادي تقدم الشيخ عبد الحميد بن باديس قادمًا من مدينة قسنطينة وألقى بالمناسبة خطابًا متميزًا، حضره مئات الجزائريين المهتمين بالخطاب الإصلاحي والوطني، كما تداول على منصة النادي كل من الشيخ الطيب العقبي والشيخ العربي التبسي والشيخ مبارك الميلي.

تحول النادي إلى قبلة العمل الخيري والثفاقي

وتَوسعت أنشطة النادي، وبات قبلة ومَقصدًا للعمل الخيري والجمعوي، وشهدا المقر تأسيس "جمعية الفلاح"، و"الجمعية الخيرية الإسلامية الكبرى"، و"جمعية الزكاة"، وضمت نشاطات جمعوية، على غرار أعمال جمع شمل وحدة النواب الجزائريين، وكانت مقر اجتماع لتأسيس البنك الإسلامي الجزائري، الذي رفضته الإدارة الاستعمارية، علاوة على أشغال مقاومة تأسيس التجنيس والاندماج، وحملة مساعدة الكفاح الفلسطيني، وفي إطار الحوار الديني ومكافحة التبشير المسيحي والاعتداء على المقدسات الإسلامية، احتضن النادي حوار الأديان إلى جانب كل من ابن باديس والميلي والشيخ العقبي، وجماعة من المسيحين مثل الكاتب مسيو بيرني، وجماعة من المتدينين اليهود منهم الدكتور غزلان.

ميلاد جمعية العلماء المسلمين

وشهد "نادي الترقي" ميلاد جمعية العلماء المسلمين بعد سنة من احتفال فرنسا بمئوية احتلال الجزائر، وكان ذلك ردًا على المستوطنين الذين رفعوا شعار "الجزائر فرنسية"، بتأسيس جمعية إصلاحية في الخامس من شهر أيار/ماي 1931 بـ"نادي الترقي" وأسندت رئاستها إلى عبد الحميد بن باديس، والذي كان غائبًا عن الاجتماع في اليوم الأول وفي اليوم الثاني وحضر الاجتماع في اليوم الثالث.

ولدت فكرة إنشاء جمعية إصلاحية في ذروة الصراع بين التيار الإصلاحي غير المهيكل والطرق الصوفية، وكان وراء الفكرة كل من عمر إسماعيل الزواوي، والشيخ محمد العاصمي ومحمد عبابسة من أعلام منطقة بسكرة، وانضم إلى الفكرة كل من عبد الحميد ابن باديس ومبارك الميلي والشيخ الطيب العقبي والشيخ خير الدين والشيخ الحافظي من علماء منطقة الجلفة، وأعد القانون الأساسي الشيخ توفيق المدني وتكفل عمر إسماعيل بتمويل الفكرة والمشروع.

نداء الهدنة 1956

في الـ 22 من شهر كانون الثاني/جانفي سنة 1956، بادر جمع من النخبة الفرنسية من الأقدام السوداء، والذي يطلق عليهم تسمية (Algérianistes) رفقة بعض الجزائريين إلى إصدار نداء من أجل وقف العمل المسلح والهدنة للمدنيين، والدعوة إلى الحوار والتعايش بين الجالية الأوروبية وجبهة التحرير الوطني، وأمام سدّ  جميع القاعات أمام أصحاب المبادرة التي أشرف عليها الكاتب ألبير كامو، تم الاتفاق على الاجتماع في "نادي الترقي" وإلقاء المحاضرة والنص البيان، حضر اللقاء من مثقفي الأقدام السوداء كل من جون دو ميزونسول، لويس ميكال، بيار أندري إيميري، رونالد سيمونات، لويس بينيستي، إيفلين ورينيه سينتي، إيمانويل روبال، هينري كوردرو.

أما الجانب الجزائري فقط حضر اللقاء كل من عمار أوزڨان، محمد البجاوي، المحامي عبد الرزاق شنتوف، وبوعلام موساوي ومولود عمران والدكتور عبد العزيز خالدي، كما شارك في الندوة كل من الشيخ الطيب العقبي وفرحات عباس، وتم تأمين المكان من طرف أرزقي بوزرينة وعمر عيشون ومحمد عبد النور.

يُشار بحسب مصادر تاريخية، أن قيادة الثورة آنذاك، هي من وافقت على أن يحتضن "نادي الترقي" لقاء نداء الهدنة، ومشاركة الأسماء المذكورة سابقًا، والتي انظمت إلى جبهة التحرير الوطني، وعناصر الجبهة هي من كانت وراء تأمين المقر من اعتداءات فرنسية حاصرت المكان، وكان القصد الذي استشرفه عبان رمضان، أن نداء الهدنة الذي أمضاه نخبة من الفرنسيين، سيكون مصيره الرفض أولًا من طرف المعمرين وثانيًا من طرف الإدارة الاستعمارية، ليعزز خيار العمل الثوري أمام الرأي العام الوطني والعالمي.

إضراب الطلبة الجزائريين

وفي 19 أيار/ماي 1956 بـ"نادي الترقي"، قُرأ وأعلن بيان الإضراب العام للطلبة المسلمين الجزائريين بأمر من جبهة التحرير الوطني، وهي المحطة التاريخية الفاصلة في الكفاح المسلح الذي تعزز بالطلبة، وأثمر عن تحول في التركيبة البشرية في صفوف الثوار، عبر انضمام كوادر في مجال الطب والكيمياء والحقوق والاعلام والاتصال.

تجميد نشاط نادي الترقي

وفي أول حزيران/ جوان 1958 وبعد تسلم السلطات العسكرية ملف إدارة الحياة المدنية والسياسية، أقدم الجنرال ماسو على غلق وتجميد نشاطات جمعية "نادي الترقي"، نظرًا إلى نشاطاتها السياسية والجمعوية والتوعوية لصالح الثورة التحريرية، كما تم الاستيلاء على المقر وتحويله إلى مركز عسكري.

منذ ثلاثين سنة من النشاط كان "نادي الترقي" أكبر من جمعية أهلية، بل منتدى ثقافي وسياسي وإصلاحي. كان لفترة ما مقر نادي المولودية الجزائر، وفضاء لمدراس التعليم الفني والغنائي، ومقر جمعيات الغناء الأندلسي على غرار جمعية "الجزائرية الموصلية" الفرقة الغنائية "الغرناطية"، كما استضاف النادي عروضًا مسرحية وترفيهية وندوات علمية، وعمت حفلات انتصارات المولودية الكروية، والتي غيرت المقر احترامًا وتقديرًا لنشاط جمعية العلماء المسلمين.

أعيد فتح "نادي الترقي" الذي تعرض للغلق من السلطات الاستعمارية مباشرة بعد استقلال الجزائر في سنة 1962

وفي 19 آب/أوت 1962 تم إعادة فتح فرع "نادي الترقي" الواقع بساحة الشهداء حاليًا، والذي أشرف عليه المجاهد الراحل عمر عيشون كأمينا عامًا، إلى غاية 22 كانون الثاني/جانفي سنة 2002، وبعدها استلم عبد الرحمان شيبان مفاتيح المقر، ليعود إلى أحضان جمعية العلماء المسلمين.