في أحياء جزائرية كثيرة، ترتفع بنيات بواجهات متشابهة وتتراص إلى جانب بعضها البعض، حتى لا يكاد الزوار يميّزون بين مدينة في أدنى الشرق وأخرى في أقصى الغرب، بسبب وجود بنايات غير مكتملة وباقية على حالها منذ عقود من الزمن، حيث يطغى لون الآجر والإسمنت على كثير من الشوارع والأحياء السكنية حديثة النشأة في البلاد.
انتشرت خلال الأعوام الأخيرة عدة سلوكات عمرانية أثرت على واجهات المدن برزت في عدم اتساق طلاء المباني والاعتداء على الأرصفة والمساحات الخضراء والكتابة على الجدران
هذه واحدة من السلوكات المجتمعية التي تؤثّر في واجهات المدن وجماليتها، أو ما يطلق عليها أحيانًا بـ "التلوث البصري" ، إذ يربط كثيرون يربطون ذلك بظروف اجتماعية دفعتهم لعدم الاهتمام بالمظهر الخارجي للبناء مهما كان نوعه.
تبعث على القلق
هذه الحقيقة الحاضرة والغائبة في أذهان البعض، نلاحظها يوميًا في الأحياء الراقية كما الأحياء البسيطة، في المدن الكبرى وفي الداخلية على حدّ سواء، رغم أن بعض المسؤولين يركزون على الجانب الجمالي للبلديات، وخصوصًا في المناطق الحضرية، بينما ترزح بعض الأحياء وسط ما يطلق عليه "تشويه" المظهر الخارجي للعمارة، فأين الخلل؟
لا يختلف كثيرون في أن عدم الاهتمام بواجهة المنازل يؤثر على جمالية المدنية وهويتها، إذ تبرز عدة بنايات غير متجانسة وغير منسجمة بصورة واضحة في كثير من الأحياء، وتقضي عشوائيات البنايات على صورتها الجمالية، ويبعث ذلك على عدم الراحة النفسية والقلق لدى الساكنة.
ومن خلال وصف كختصين في العمران لـ" الترا جزائر"، تعتبر هذه الظاهرة عنصرًا غريبًا من صنع الإنسان على واجهة المناظر المبنية، وعدم تناسقها، فيشعر الإنسان المتلقي بالفوضى والارتباك والتشويش وعدم النظام، في مقابل ذلك ذهب البعض من الباحثين إلى وصفه بـ"إضعاف جمالي" أي أن "التشويش البصري"، يضعف قدرة الإنسان عن الإدراك ويفسد الذوق ويجرفه نحو اعتياد القُبح، وذلك ما يسبب اختفاء المظاهر الجمالية في البيئة والمحيط الذي نحيا فيه.
خلال السنوات الأخيرة، يقوم سكان العمارات الجديدة في الأحياء السكنية التي تم تشييدها في العشريتين الأخيرتين، بإحداث تغييرات غير مستحبة في عناصر البيئة العمرانية، وإدخال عناصر إضافية غير متسقة مع المظهر العام، وهذا من شأنه أن "يمس بقيم الذوق والفن والجمال" وفق تصريح المختص في العمران والمجتمع كريم علالي من جامعة الجزائر لـ"الترا جزائر".
ويضيف المتحدث أن "التلوث البصري" امتدّ خلال الأعوام الأخيرة إلى عدم اتساق طلاء المباني والاعتداء على الرصيف وعلى المساحات الخضراء والكتابات على الجدران، فضلًا عن عدم الاهتمام بالموروث من المباني القديمة التي تمثل حقبة من الزمن وتحفظ تاريخ الإنسان الجزائري.
يعتبر الكثيرون أن الإضافات العشوائية على العمارات، خاصة في الأسطح ووضع خزانات مياه في الشرفات أو إلصاقها في الجدران على مستوى العمارات الضيقة، تعتبر "ظواهر سلبية وسلوكات غير حضارية"، ما يؤدي بالمحصلة إلى افتقار الجمال والذوق العام.
وفي هذا السياق، تحدّث لعلالي عن عناصر غير جذابة وغير مدروسة تضاف إلى المباني والعمارات ولا تراعي أيضًا النظام، مثل الإعلانات العشوائية، التي تبعث على عدم الارتياح النفسي، وبعيدة عن فنّ العيش.
"مكره أخاك لا بطل"
تعرف بعض الأحياء السكنية في الجزائر أيضًا، وضع المقعرات الهوائية والمكيفات وخزانات المياه على واجهات المباني وأمام مداخلها السكنية، فضلًا عن توسيع المحلات والمقاهي على حساب الرصيف العمومي ما أدى إلى تشويه المنظر العام في الشوارع.
أسباب كثيرة لتشويه المنظر العام من منظور المواطن البسيط والمختصين في علم اجتماع العمران على حدّ سواء؛ فمن مبدأ " الغاية تبرر الوسيلة" ذهب الكثيرون إلى اعتبار أن عدم توفر الماء يوميًا، يدفع الكثير من العائلات إلى اللجوء إلى مثل هذه الصهاريج البلاستيكية، وأحيانًا يغيب الماء عن الحنفيات لأكثر من أسبوع، الأمر الذي يدفع المواطن البحث عن حل مؤقت، مثلما يقول خالد بو حبل القاطن بحي "تسالة المرجة" شرق العاصمة الجزائرية لـ" الترا جزائر".
ولفت المتحدث، إلى أن كثيرًا من السكنات الموجودة على مستوى عمارات من ستة إلى سبعة طوابق " ضيقة جدًا" ولا تحتمل الشرفات الموجودة على مستوى كل سكن وضع مثل هذه الخزانات فضلًا عن طرق هندسة وتفصيل البيوت وعدد أفراد ساكنيها.
الجانب الجمالي للعمران
يعترف الكثيرون بأن " تشويه العمران" أصبح واقع نلاحظه يغلب على مناظر البنايات غير المكتملة أو ما يطلق عليها بـ"سكنات الآجر الأحمر" إضافة إلى الاعتداءات من بعض السكان على مساحات عمومية، كالبناء في الرصيف وغيرها.
برأي المختصين، تتداخل عوامل كثيرة التي أوصلت المنظر العام إلى حالة من "التلوث البصري"، أبرزها عدم الاهتمام بالجانب الجمالي في بعض الأحياء السكنية والمدن الجديدة، كما تقول الباحثة في علم النفس علياء حرايرية من جامعة قسنطينة، لافتة إلى أنه ومع مرور الزمن يفقد المواطن الذوق والإحساس بالجمال، بل أكثر من ذلك فإن الأسباب الاجتماعية السلوكية بدورها تلعب دورًا في غياب الاهتمام بجمال الفضاءات السكنية، لأن الآلاف من المواطنين ينتظرون لسنوات طويلة في الإفراج عن قوائم السكن، وتحول الحصول على مفتاح شقة من حلم بعيد المنال إلى كابوس مؤرق، فيغيب عنهم البحث عن جمال المكان".
وعللت حرايرية لـ "الترا جزائر" ذلك بقولها:" مشكلة السكن وارتفاع نسبة الفقر تجعل المواطن يفكر في السكن باعتباره مكان يلجأ له في آخر النهار للنوم بعيدًا عن موقعه ومساحته، لذا فإن الطابع الجمالي للسكن يعتبر آخر اهتماماته، ما أفضى إلى تنامي المباني غير المكتملة وذات مظهر مشوّه.
الأسباب الاقتصادية أيضًا لها دور فيما نشاهده اليوم في المظهر الخارجي للبنايات، تضيف المتحدثة، ففي العقدين الماضيين بات البحث عن إنجاز الكم من السكنات على حساب الكيف والجودة، هو الأهم بالنسبة للحكومات المتعاقبة، ذلك ما أدى بدوره إلى سوء التصميم وسلبيات عدم التخطيط في تزيين واجهات المباني، على حد تعبيرها.
هذه الفوضى وتشويه للمحيط العمراني في العديد من الأحياء السكنية، قضت على جمال المدن الجزائرية، وفق المهندسة سامية بن نبي المختصة في المنشآت الفنية الكبرى، موضحةً بأنه إذا سلمنا بظروف توزيع المياه في الأحياء السكنية وانقطاعاتها المتكررة، فإن السؤال المهم هنا: هل هذه الأحياء السكنية تحتمل مثل هذه الصهاريج التي تزيد سعتها عن ألف لتر من الماء؟
وأشارت بن نبي في تصريح لـ "الترا جزائر"، إلى أن أغلب الأحياء السكنية لم تراع مثل هذه الظروف، أو لم تخصص في تهيئتها من البداية سواء تعلق للهندسة الأولية، مسألة نقص المياه ولجوء العائلات إلى توفير الماء عبر خزان إضافي سيبحثون له عن مكان ما في السكن أو في العمارة، لكن في بناءات جاهزة أو عمارات جديدة، فهو الأمر الذي يتطلب تدخل الدولة في إعادة مراقبة الأدوار، سواء فيما تعلق بالبناء قبل تسليمه للسكان أو فيما تعلق بتوفير هذه المادة الحيوية.
هل هو غياب للسلطات؟
شهدت ولاية قالمة شرق الجزائر أن خزانًا مائيًا سقط على أطفال صغار يلعبون أمام العمارة فتسبب في إصابة خطيرة لطفل عمره خمس سنوات، لذلك يطالب الكثيرون بـ" الردع" والامتثال للقانون متسائلين: أين هي شرطة العمران؟
ويعتبر دور شرطه العمران مهم للغاية، إذ يرى البعض أن تفعيل دورها ضروري جدًا، خصوصًا وأن الامتثال للقانون مهم جدًا خصوصًا وأن هذه الخزانات خطيرة وقد يتسبب في " كارثة كبرى"، فضلًا أن المشرع الجزائري حارب مظاهر" التلوث البصري"، ودعا إلى الانسجام المعماري والعمراني والطابع الجمالي بالنسبة للمجموعة العقارية عند تصميم البنايات واتساقها وانسجامها.
واللافت أن مخالفة القوانين المتعلقة بالبناء تعرفه العديد من المدن الجزائرية، ما يستدعي تدابير ردعية عاجلة في مجال عدم احترام قواعد التعمير، لأن المظهر الجمالي لا يقتصر فقط على انسجام الأشكال ونوعية واجهات البنايات، بل يمتد إلى المواد المستعملة في تزيين وإتمام واجهات المباني، والمحافظة على المظهر الخارجي.
شهدت ولاية قالمة شرق الجزائر أن خزانًا مائيًا سقط على أطفال صغار يلعبون أمام العمارة فتسبب في إصابة خطيرة لطفل عمره خمس سنوات
ورغم الترسانة القانونية الناظمة للقضاء على تشويه العمران، فإن ما يسمى بـ "التشوه البصري" في المدن الجزائرية، يفتح قضية أخرى أكثر عمقًا وضراوة تسببت في تعقيد حياة الفرد الجزائري في الوسط الحضري، وارتباطها غير المباشر بحدوث الجريمة والتعدي على حقوق الغير.