13-يونيو-2023
عمارة في مدينة وهران (الصورة:Getty)

عمارة في مدينة وهران (الصورة:Getty)

ما رأيكم في أن البيت الذي يعتبر الملجأ لنا جميعًا، والسقف الذي نأوي إليه في نهاية كل يوم، لكن يكون صالحًا للعيش؟ هل بيوتنا صالحة للسكن بعد بلوغ الخمسين؟ بعد نصف قرن من العمر، فكثيرون ممن عانوا من مخططات السكنات الاجتماعية الحكومية، يطرحون عدّة أسئلة تتعلق بمصيرهم وسط كتل إسمنتية شاهقة خالية من المرافق.

هل فكّر المخططون لبناء آلاف السكنات المستمر منذ ثلاثة عقود من الزمن، في حالة المواطن الذي سيعيش فيها بعد عمر طويل؟

يُشبِّه كثيرون هذه السكنات الاجتماعية بـ"المراقد" المخصصة للنوم فقط، إذ تنتشر كثيرًا هذه الأحياء التي تضم بنايات شاهقة متراصة في المدن الكبرى من البلاد، ولا يبدو أن المخططين، حسب متتبعين، أنفقوا كثيرًا من الوقت على تصميمها، حيث تتوفر هذه الأحياء بالكاد على حضائر ركن للسيارات، أما الحديث عن مرافق مثل قاعات المطالعة والمسارح والمسابح فهو أمر غير وارد.

ماهي الأنماط السكنية التي تريدها الحكومة لمواطنين يدفعون الضرائب في صيغة الدعم الاجتماعي؟ هل فكّر المخططون لبناء آلاف السكنات المستمر منذ ثلاثة عقود من الزمن، في حالة المواطن الذي سيعيش فيها بعد عمر طويل في سنّ الخمسين والستّين والسّبعين وما فوق؟ وهل فكر الجزائريون في أن السكن ليس المساحة والبذخ في التأثيث بل هو أدنى الشروط السهلة للحياة؟

فرحة لم تكتمل

في إحدى عمارات حي بالعاصمة الجزائرية توقف المصعد الكهربائي الذي يعتبر أهم مرفق في كل بنايات الحي، فأصبح الصعود للشقة في الطابق السابع والثامن شبه مستحيل، أو كما قالت السيدة صورية سلامي  (53 سنة)، ممرضة بالمرفق الصحي للعيادة المتعددة الخدمات بالأبيار وسط العاصمة لـ"الترا جزائر"، مضيفة أن عملية الصعود والنزول في سلالم العمارة يشبه مجازفة يومية، خصوصًا وأنها خاضتها وكادت أن تحبس أنفاسها، فيما أكدت بأن "النزول من العمارة هو انتحار لكل مصاب بالضغط الدموي أو بعلة في القلب أو في الركبة".

صدفة وضرورة ألقت بي للحديث عن الموضوع، رغم أن قطار العمر لم يلحق بعد إلى محطة العقد الخامس، تقول المتحدثة، لكن في المقابل الصدفة ذاتها جعلتها تتحدّث عن علاقة نمط السكن بالتقدم في السنّ، في تجربة عرفت منها الكثير خصوصًا وهي التي عاشت طفولتها في منزل بعمارة يعود بنائها إلى الفترة الاستعمارية، وبعد زواجها ظلت تتنقل من بيت إلى آخر بصيغة "الإيجار المضني" على حدّ تعبيرها.

تضيف قائلة: "منحني الله سكنًا في صيغة البيع بالإيجار ولكن مكان الشقة في الطابق الخامس، وهو ما يمنع عن زوجي صعود السلالم لأنه مصاب بضعف على مستوى القلب، وحذره الأطباء من الإجهاد والركون إلى الراحة متى استطاع، وفي محاولات حثيثة لتغيير السكن مع شخص آخر يسكن في الطابق الأرضي أو الأول على الأقل، محاولات باءت كلها بالفشل".

في زاوية أخرى، تعتبر هذه السيدة مشكلة السكن في الجزائر معقدة جدًا، إذ تتعلق أساسًا بمخطط تهيئة خاصة بالمصاعد الكهربائية التي تتعطل كثيرًا، متسائلة كيف يعمل ويعيش من يقطن في سكن بالطابق السابع والثامن؟

تتطرق محدثة "الترا جزائر" إلى معضلة التوزيع غير العادل للسكن، فمن يقبل بالمجازفة ويسكن الطابق السابع حتى وإن كان في صحة جيّدة؟  لافتة إلى الظروف الاجتماعية التي تعرفها الجزائر، ومشكلات تتعلق بالمرافق الحيوية للعيش الغائبة، تجعل من الحصول على سكن نصف فرحة أو فرحة منقوصة على حد تعبيرها.

المثير في القصة أن فرحة امتلاك سكن جاءت بعد انتظار دام أكثر من 18 عامًا، إذ قال زوجها فريد لـ"الترا جزائر" أنه في السابق انتظر فرحة امتلاك سكن لسنوات طويلة، ولم يشعر البتة بمرور قطار العمر بغتة، غير أنه أمام عجزه الصحي المتقهقر يوميًا، يجعل تفكيره ينصب دومًا في كيفية الخروج من البيت والنزول في السلالم للذهاب للعمل أو لزيارة الطبيب؟ وماذا سيفعل في سنّ التقاعد؟

هذه الحقيقة تطرح إشكالات متعددة في نمط السكن الجزائري في الفترة الحالية، وهو ما جعل البعض يشتكون في قاعات الانتظار بالمستشفيات من المصابين بخشونة الركبة ومن أمراض التقدّم في العمر، خاصة هشاشة العظام وأمراض القلب والضغط الدموي والسكري والربو والغدة الدرقية والسرطان، فهؤلاء جميعهم يصعب عليهم السكن في شقق تجاوز علوها الطابق الثالث وحتى الثاني.

كثيرة هي العينات التي تخلّت عن بعض حياتها أو جزءٍ من حياتها العادية بسبب السكن أو بالأحرى بسبب شكل السكن وموقعه، فالبعض لا يخرج منه إلا للضرورة فيما يتحتم على كثيرون مسايرة الوضع والنزول من البيت دون العودة إليه إلا في فترة المساء، فيما يفضل البعض الآخر الذهاب إلى "حوش الأجداد" أي إلى بيوت العائلة الكبيرة بحثًا عن السكينة والهدوء والراحة ورفاهية سهولة التنقل بين الغرفة والحمام.

بالنسبة لأنماط السكن في الجزائر، يتحدّث البعض بأنهم على الأقل يمتلكون سكنًا يأويهم، لكن في المقابل من ذلك ينظرون إلى كبار السنّ بعين الرأفة لحالهم، إذ يئنون من أوجاع لا يمكن أن يخفّفها أي شيء، وهو ما يجعل الأمر غير متاحٍ لهم بأن يحق لهم اختيار العيش في بنايات صحية في "خريف العمر"، لأن أغلب ما هو متوفر حاليًا كثير منه "غير لائق" خصوصًا في سكنات جديدة في الأحياء السكنية الحديثة النشأة والبناء، فعلاوة على كونها عبارة عن "علب مربعة في بنايات يطلق عليها بالعمارات، فإنها لا تليق لعيش كبار السن بتاتًا".

في هذا الصدد، يكشف جمال الدين عمراني من منطقة بومرداس شرق العاصمة بأنه تخلى عن فكرة استضافة بعض أفراد عائلته بسبب هذه المعضلة، متسائلًا من سيزورنا ونحن نقطن في علو شاهق؟ فإذا صعد الشخص فلا يتحمس للنزول أو الخروج.

الأمر الواقع

قد يبدو الأمر غير مهم للبعض، ففي البدء يعد الحصول على سكن هو الأهم والقضية الرئيسية للآلاف من العائلات، بل صار حلمًا يطاردونه خلال سنوات، خصوصًا لمن طال انتظاره منذ مدة طويلة، ولكن كثيرين يفكرون في المستقبل أو كما يسميها البعض باللهجة الشعبية " عقوبة الزمان" أي في سنوات الكبر والهرم.

يطرح البعض ممن تحدثنا إليهم، فكرة إنجاز سكنات الفردية لا تستجيب لتلك المرحلة من العمر، يصفها رياض بن عبد الرحمان لـ"الترا جزائر" بـ"الأخطاء القاتلة في البناء الفردي"، فهو شخصيًا لم يفكر في مرحلة الكبر وسنوات "بلوغ سن متقدمة" التي تصبح الأعباء أثقل على الظهر والرجلين والعظام والقدمين، فيما تفطن متأخرًا للأمر أثناء مرض والدته البالغة من العمر 82 سنة، واحتاج لتفريغ المستودع الأرضي وإعادة تجهيزه كغرفة للمعيشة مع لواحقها الضرورية حتى تتمكن من العيش معه وتفقدها في كل مرة وتسهيل حياتها اليومية.

كثيرون يخططون لإنجاز شقة صغيرة في الطابق الأرضي تكون مجهزة لـ"الزمن" يضيف بن عبد الرحمان، وتمنع عنهم الصعود إلى الطوابق الأخرى من المسكن ذاته.

هذه الطريقة في تهيئة بعض المنازل الجزائرية، لم تتوفر إمكانياتها للكثيرين، لأن ذلك لم يكن متاحًا ولا بمقدور أي كان أن يجهز شقة صغيرة بمختلف ضرورات العيش ومسايرة الحياة، بل أغلبهم يفكرون بترك الطابق الأرضي إما للاستفادة منه عن طريق تجهيزه بمستودع للسيارة ومحلات للتأجير أو لممارسة نشاط تجاري يدر مدخولًا ماليًا إضافيًا.

تفاقم أزمة

قد تكون هذه الحقيقة زاوية من زوايا العيش في مدن جزائرية بنيت حديثًا، إذ ترى أستاذة علم الاجتماع العائلة فريدة بلعلى من جامعة قسنطينة شرق الجزائر أن العمران عمومًا لم يعد بمقدوره التكيف مع متغيرات الحياة السكانية، لافتة في تصريح لـ"الترا جزائر" بأن السكن بات مرقدًا فقط بالنسبة للكثيرين، وهذا بالضرورة ناجم عن تراكمات كثيرة منها التخطيط الذي لم يراع ضرورات الحياة العصرية من جهة، وتكييف البناءات الحديثة مع تفشي بعض الأمراض المرتبطة أساسًا بضغوطات الحياة مثل الضغط الدموي وأمراض القلب والسكري والقلق والاكتئاب.

الأكاديمية فريدة بلعلى: غالبية كبار السن يجدون صعوبة في جعل ظروفهم الصحية تنسجم مع طبيعة السكن

وختمت بقولها، إن غالبية كبار السن يجدون صعوبة في جعل ظروفهم الصحية تنسجم مع طبيعة السكن، لهذا كثيرون منهم يتألمون في صمت، وهي وضعية برأيها سيمر بها الجميع في ظل تنامي عدة ظواهر اجتماعية تعكر صفو العيش.