تعدّ الشعبانية مناسبةً احتفالية دينية روحانية وتضامنيةً في آن واحد، يستغلُّها القسنطينيون للتّحضير لاستقبال شهر رمضان المبارك، وإظهار التضامن والفرحة بقدوم الشهر الفضيل، ولا تقتصر-كما هو متعارف عليه- على الاحتفالات الدينية التي تقام في آخر أيام شعبان لاستقبال الشهر الكريم، والتي تكون بالأصل آخر مراحل “الشعبانية”، بل إنها تمتد إلى داخل البيوت القسنطينية، وإلى تحضيراتها الخاصة قبل ذلك
أهمّ التحضيرات التي تواكب أيام "التشعبين" تكمن في تحضير "الفريك" الذي يعد المكوّن الأساسيّ لشربة قسنطينة الشّهيرة
اكتسبت الشعبانية هذا الاسم من شهر شعبان الذي تدورُ أحداثها خلاله، كما إن عادة “التّشعبين” تكونُ ممارسةً يقوم بها القسنطينيون خلال ذلك، فَيُقالُ في اللَّهجة المحلية القسنطينية "نشعبنو"، أي (نستغلُّ فترة شعبان للقيام بنشاطات خاصّة به) كطهي الأطباق التي لا نأكلها عادةً خلال رمضان قصد الاكتفاء منها، والقيام بالطقوس الفريدة التي لا تُعَدّ ولا تُحصى خلال تلك المناسبة.
خلال فترةِ "الشّعبانية"، يردّد العديدُ من سُكّان قسنطينة مقولة "شعبان واللّي عنده حبيب يبان"، ما يعني أن هذه الفترة تكشف عن قوّة المحبة التي تربط العوائل والجيران والأقارب بعضهم ببعض، ليتجاوز هذا الحبّ علاقات القرابة والصّداقة، ويصل إلى الغريبِ والمحتاجِ والفقير، وهذا ما يجعلُ منها مناسبةً لمدّ أواصر الخير والتعاون.
ويقال أيضًا في اللّهجة المحلية القسنطينية عن الشعبانية أنها "التّسجية لسيدنا رمضان"، أي التَّحضير المُسبق لاستقبال هذا الشّهر الذي يُطلق عليه اسم "سيدنا" نظرًا لقيمته الروحانية والدّينية لدى سكّان المدينة، حيث يُخاطَبُ من طرف كبار السّن على أنه رجلٌ صالحٌ يزورنا بكُلِّ بركاته في كلّ عام.
بوادر “التشعبين “ و”الشعبانية”
في حديثٍ مع السّيدة سامية ابنة حي السويقة العتيق، وإحدى أهمّ ساردات قصص قسنطينة القديمة، أسرّت لنا أنّ فترة الشعبانية، تشمل فترة ما قبل النّصف الأخير من شهر شعبان، حيث يُكرِّس النّاس وقتهم للصّيام والتّصدق على الفقراء، إضافة إلى أنها مناسبةٌ مهمّة “للتشعبين”، ما يعني تشارك الطّعام القسنطيني اللذيذ وكل الأطباق المُشتهاة بكلّ أنواعها كنوع من التآزرالمجتمعي واللّمّة.
تقول السيدة سامية أنها تلتزم شخصيًا منذ شبابها بتطبيق هذه العادات، حتى لا تنسى ما توارثته عن عائلتها التي سكنت طويلًا في تلك الأحياء، وحتى لا تخسر عبق رمضان ورائحته التي لا نشمها إِلَّا من خلال الحفاظ على هذه العادات.
اعتاد إذن سُكّان الأحياء العتيقة في وسط المدينة -حسب السّيدة سامية- منذ زمن طويل على طلاء بيوتهم بالجير الأبيض وتجديد الأحياء وتنظيف الطرق وواجهات المحلات، كما تكفّلت النساء داخل البيوت بالقيام بحملات النّظافة التي كانت تستغرق منهن عدّة أيام، إضافة إلى تزيين الغرف وواجهات المنازل حتى يتم استقبال الشهر الكريم بنفسٍ جديد.
التّحضيرات الأساسية
بعد التبييض والتنظيف، تلتفت السّيدات والبنات إلى تحضير الأشياء الضرورية التي تدخل في تحضير فطور رمضان، إضافة إلى إكرام أفراد العائلة والجيران بأشهى الأطباق في كل مناسبة ممكنة، كما أن أهمّ التحضيرات التي تواكب أيام التشعبين تكمن في تحضير "الفريك" الذي يعد المكوّن الأساسيّ لشربة قسنطينة الشّهيرة، والتي تُقدّم يوميّاً طيلة الشهر، فيتم شراء الفريك من مناطق ريفية في الضّواحي لنوعيته الجيدة، ويؤتى به إلى البيوت لتتمّ تنقيته من الشوائب وغسله، ثمّ تُنشر حبّاته بعناية على أردية بيضاء تحت أشعة الشمس حتى تجفّ، لتصنع هذه المشاهد لوحات فنية تتباهى بها ربّات البيوت القسنطينيات، فيُدرك الجميع اقتراب حلول شهر الرحمة، حيث تنتشر مشاهد أردية الفريك في باحات المنازل أو وسط "الدار عرب" أو على أسطحها.
بعد عملية تجفيف الفريك، يتمّ جمع الحبات في أكياس من القماش وتؤخذ إلى المطاحن العتيقة التي تعدّ أشهرها والأكثر خدمةً مطحنة الشطّ" المقابلة للأدراج المؤدية إلى "زنقة الدباغين" والتي بدأت نشاطها قبل أكثر من 75 سنة.
يتمّ إذن طحن الفريك، ثم يؤخذ إلى المنزل ويغربل بالغربال المخصص لذلك، ليفصل عنه ما يسمى "الدّقاق" وهو ما يشبه نخالة القمح، فيحتفظ به لاستعمالات عدة في المطبخ القسنطيني، إضافة إلى تخزين الفريك في أكياس قماشية إلى غاية أول أيام رمضان.
بعد ذلك، تلتفت النساء إلى بقية عولة رمضان، حيث تشمل صلصة الطماطم المحضرة مسبقًا، وصلصة الفلفل الحار الأحمر والأخضر، إضافة إلى تحضير حبات شباح السفرة وشراء الفواكه المجففة كالزبيب والبرقوق والمشمش، والمكسرات التي تميّز مختلف الأطباق الحلوة التي يفطر عليها القسنطينيون خلال أوّل أيام رمضان، كما تلجأ بعض النّسوة إلى تحضير مقرود المقلة الذي يزيّن قعدات رمضان وقهوة العصر خلال التشعبين، إضافة إلى طحن التّوابل المُحَضَّرة منزليًا، طحن الأرز من أجل تحلية "المحلّبي"، وعادة تحميص وطحن القهوة في مطاحن "سيدي بوعنابة" وتوفير ماء الورد والزهر المقطّر منزليا.
نصفيّة شعبان
خلال ليلة منتصف شعبان، تُحَضّر وليمة "النّصفية"، وهي احتفالية تعقب صيام اليوم الثالث عشر والرابع عشر من شهر شعبان، وتكون الوليمة غالبًا مكونة من"التريدة" أو الثريد الذي يطهى مع "الدّجاج عرب" أي الدجاج الذي يربى منزليًا، إضافة إلى قطع من لحم الخروف.
خلال الأيام الموالية، تحضّر الأطباق التي لا نجدها خلال شهر رمضان، حيث يتمّ جمع العائلة الكبيرة في بيت الجد والجدة، ويتقاسم أفرادها ما لذّ وطاب من هذه المأكولات التي يتشارك الجميع في تحضيرها، كما يتمّ أيضا جمع "العولة" أي المؤونة، إضافة إلى مبالغ مالية بغية توزيعها على فقراء ومحتاجي الحيّ والأقارب ذوي الدخل المحدود حتى يضمن الجميع صيام الشّهر الكريم بلا أي محتاج أو جائع في محيطهم، فيكون شهرا للرحمة والمساواة.
ليلة السابع والعشرين
خلال ليلة السابع والعشرين من شهر شعبان، يحتفى في قسنطينة بما يسمى "النّفقة"، هنا، تقول السيدة سامية إنّ النّساء كُنّ يذهبن قديمًا خلال هذا اليوم إلى الحمامات التقليدية " التي كانت موجودة في بعض الأحياء كالسويقة والبطحة، حيث كُنَّ يتحمّمن ويضعن الحناء في كفوفهن وشعورهن بغية التّزين واكتساب النظارة قبل شهر رمضان الذي تمنع فيه كل مظاهر التزين للمرأة، أما الآن فقد اختفت هذه المظاهر تقريبًا مع وجود الحمامات المنزلية.
بعد ذلك، تعود النّساء إلى البيوت، ويتمّ تحضير فطائر "السفنج" أو "السّمنيات" المطهوة فوق الطاجين أو تلك المقلية، ليتناولن مع العائلة والأحباب "قهوة العصر"، وخلال هذه القعدة المقدّسة لدى العائلة القسنطينية بعد كل صلاة عصر، يوزّعن مع الأطفال نصيب الجيران أو المحتاجين والغرباء القاطنين في الحي مِمَّا حَضَّرنَ.
في المساء، يتم تقديم "عشا السبعة وعشرين" وفي العادة تكون اللمة حول الصينية النحاسية للبيت .. يقدم فوقها العشاء ومن ثم الفواكه وخلال السهرة يوضع صحن الحناء المحضر بماء الورد المقطر ويتم تخضيب أيادي الأطفال بها، إضافة إلى العرائس الجدد والفتيات في سن الزواج "العوتّق"، إضافة إلى إكساء العروس الجديدة التي ستقضي أول رمضان معهم في البيت.
شعبانية "لخوان"
من جهة أخرى، ترتبط الشعبانية وثيقًا بـ "لخوان" في قسنطينة هم من يسمّون أهل الدّيوان أو الوصفان إضافة إلى فِرق مُتّبعي الطّريقة العيساوية، حيث يستغلون هذه المناسبة للتسبيح والأذكار الخاصّة بهم، وعلى طريقتهم الخاصة والفريدة إضافة إلى حملات الصّدقة.
في هذا السّياق، يقول الشّيف سيف الدين المختص في التّراث والطّبخ القسنطينيّ في حديثه أن "لخوان" لهم نصيب مهمّ في احتفالية ليلة السابع والعشرين من شهر شعبان، حيث اعتادوا في القديم على تقديم الذّبائح من الخرفان والعجول خلال ذلك اليوم، بغيةَ توزيعها على الفقراء والمحتاجين في مختلف الأحياء، وقد كانوا يخرجون على شكل مجموعات ليجوبوا "زنق" قسنطينة أي أحيائها، حاملين الأعلام، مرتدين ألبستهم الخاصة "لبسة عرب مع شاشية عصملية"، مُردّدين الأذكار والتّسابيح وهم يطوفون بالبخور المكوّن بشكل أساسيّ من "الجاوي"، فتمتلئ الأحياء يومها بالدّخان الكثيف وروائح البخور التي يفتح لها السّكان نوافذهم لتدخل كلّ البيوت كنوعٍ من البَركة.
يضيف سيف الدين إن هذه الطّقوس كانت تمارس قديمًا في أماكن معينة وداخل البيوت العتيقة المبنية على طراز خاص أو ما يسمّى "الديار عرب"، أشهرها ديار الوصفان أو الطّبول (كدار بحري ودار هوصة ودار برنو)، إضافة إلى دار بن شريف، كما كانت هذه الاحتفالية تمتد إلى الزّوايا، مثل زاوية بولجبال والزّاوية الرّحمانية (سيدي بن عبد الرحمن)، وديار زنقة الشّط مثل (دار المحلة ودار الدّباغ)، إذ يتم فرش كلّ الشّارع بعد تنظيفه بالزرابي ليجتمع السّكان من كُلّ الطّبقات، ويتمّ توزيع الولائم وتشارك الطّعام دون الحاجة إلى دعوة أي أحد، فقد كان السّكان والغرباء والمحتاجون جميعًا يجتمعون على الموائد نفسها، ويقضون طيلة تلك الليلة في الاستماع إلى الدقّ على الدّفوف والتّطبيل وتقاسم وليمة "الشّخشوخة" بالكرشة (الأحشاء) المستخرجة من الذّبائح التي وُجِّهَت للصّدقة.
خلال تلك الليلة، توضع صواني عليها حلويات قسنطينية منها المقرود والطمينة و"مخ الشّيخ" الذي يتكوّن من زبدة البقر الصافية مع العسل الحُرّ، والذي يتناوله أفراد "لخوان" لتنقية أصواتهم وتفادي البحّة التي تحدث لهم لِفَرطِ التّسبيح والغناء الصوفيّ بصوتٍ مرتفع.
يستطرد المتحدّث، أن الجميع (نساء ورجالًا) كانوا يستغلّون تلك المناسبة، كلٌّ في مكانه من دون اختلاط، للأذكار والاستغفار وغناء القصائد الصوفية، والأهمّ من ذلك، ممارسة طقس "التّهوال" على وقع طبول الوصفان، حيث تمارس هذه العادة لدى الجنسين بغية الترويح عن النّفس والجسد، والتّخلّص من كل الطّاقات السّلبية التي تسكن كُلاًّ منهم، وقد كانت هذه العادة تسمى "غْلِيق صندوق السّر"، أي أنّ أصحاب الدّيوان يوقفون نشاطهم وعزفهم بداية من تلك الليلة، ويحرّمون على أنفسهم ذلك طيلة شهر رمضان إلى غاية ليلة السابع والعشرين منه، ثُمّ يختمون أخيرًا تلك اللّيلة بتلاوة حزب من القرآن ويعود الجميع إلى بيوتهم وهم متحمّسون لاستقبال أول أيّام رمضان المبارك بعد ثلاثة أيام.
خلال ليلة منتصف شعبان، تُحَضّر وليمة "النّصفية"، وهي احتفالية تعقب صيام اليوم الثالث عشر والرابع عشر من شهر شعبان
مازال "لخوان" يمارسون هذه العادات ولو كان ذلك بشكل رمزيّ وأقلّ صخبًا، وما تزال لمساتهم حاضرة خلال آخر أيام شعبان في الأحياء العتيقة، كما يحتفظ سكان قسنطينة بأهم العادات التي تميّز الشعبانية وطقوس “التشعبين” ولو مع شيء من الحداثة، حيث تناقل الجميع هذه الممارسات الجميلة جيلًا بعد جيل ومازالوا يحاولون توارثها والحفاظ على تراثيتها وروحها الأصلية ذات الطابع الدّيني والروحانيّ والخيريّ على حدٍّ سواء.