برزت في المشهد السياسي الجزائري، خاصّة بعد الحراك الشعبي الذي انطلق في شبّاط/فيفري الماضي، أطرٌ نضالية جديدة، بديلة عن الأحزاب السياسية المعروفة، تمثّلت في مجموعة من التنسيقيات السياسية، بادر بإنشائها ناشطون من المجتمع المدني وبرلمانيون وقياديون في أحزاب سابقة، بحثًا عن تموقعٍ جديد في المشهد السياسي، بعد إفلاس الأحزاب من قواعدها الشعبية، خاصّة وأنّ كثيرًا منها محسوب على نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وكانت تدعم ترشّحه لعهدات متتالية.
ارتبط ميلاد التنسيقيات بالحراك الشعبي في الجزائر
البحث عن مخارج
خلال الأسبوع الماضي، أعلنت مجموعة من الشخصيات السياسية، إنشاء "التنسيقية الجزائرية لأنصار المشروع الوطني النوفمبري"، تضمّ كلًا من الأمين العام السابق لحركة النهضة فاتح ربيعي، والنائب السابق في البرلمان محمد حديبي، والمحامي عمار خبابة، والناشط جمال بن عبد السلام وغيرهم.
اقرأ/ي أيضًا: السلطة تستعجل الانتخابات.. وصفات تقنية لأزمة سياسية!
تزامنًا مع تأسيس هذه التنسيقية، وُلدت عدّة تنظميات من رحم بعض الأحزاب السياسية، مثل "التنسيقية الوطنية للمجتمع المدني" و"حركة التيّار الأصيل" وغيرها من التنظيمات، دون أن ننسى التنظيم الذي استحدثه قبل سنة الرئيس السابق لـ"حركة مجتمع السلم" أبو جرّة سلطاني، والذي أطلق عليه اسم" منتدى الوسطية" وجمع حوله مجموعة من الشخصيات السياسية والفكرية، وناشطين من مختلف الأطياف الأخرى.
ترتبط ولادة هذه التنسيقيات، بحسب ناشطين في الشارع الجزائري، بالحراك الشعبي في الجزائر، وانتشار عدوى رفض تمثيل الشارع من طرف شخصيات أو أحزاب سياسية. هنا، يرى سليم زراري الناشط في الحراك الشعبي بولاية عنابة شرقي البلاد، أنّ هذه التنسيقيات "تجاوزت الهياكل التنظيمية والأطر الجمعوية، بعدما فشلت الأخيرة في تبنّي مطالب الشعب واستقطاب كفاءات وطنية وشبابية، وعدم قدرتها على لمّ شمل الكثيرين تحت غطاء مبادرة تُخرج الجزائر من أزمتها السياسية، على حدّ قوله.
يشدّد زراري في تصريح لـ"الترا جزائر"، على فكرة أنّ الأحزاب والجمعيات أصبحت مستهلكةً من جهة، ومشلولةً أمام المدّ الشعبي في الشارع منذ سبعة أشهر من الاحتجاجات من جهة أخرى، لافتًا إلى أنّ اندفاع الشباب في هذه المرحلة، جعلهم يكشفون عن إطارٍ جديدٍ قادر على مسايرة الأحداث، وتقديم بدائل تتماشى مع تطلعات وآمال الملايين.
أسطوانة مشروخة
يبدو أن الشارع الجزائري، تجاوز فكرة تأطيره وتمثيله من طرف الجمعيات والأحزاب السياسية، رغم تعدّد مرجعياتها وأيديولوجياتها، وهو الأمر الذي جعل شخصيات سياسية، مثل التي كانت تنتمي إلى حزب النهضة، تلجأ إلى تغيير الواجهة السياسية، وتُنشئ "التنسيقية الجزائرية لأنصار المشروع الوطني"، مثلما يقول النائب السابق في البرلمان والقيادي في التنسيقية، محمد حديبي، موضحًا في حديث إلى "الترا جزائر" أنها جاءت استجابة لصرخات الملايين المطالبة بتغيير الوضع السائد، على حدّ تعبيره.
يعتقد حديبي أنّ "الحظيرة الحزبية الحالية بكل أطيافها ومكوّناتها ومواقعها، لم تعد قادرة على مواكبة الحدث"، مضيفًا أنّ رصيدها أصبح خاليًا وأصبح تحركّها صعبًا، ويستدعي هذا الواقع حسبه، خطابًا جديدًا يرفع قبعة التعايش مع الكلّ في وطن واحد موحّد".
وعزا حديبي هذه الصورة التي تشهدها الأحزاب السياسية، إلى "تراكمات السياسية أصابتها بعقم سياسي من تولّي قيادات متحرّرة شبابية، تدرك التطوّرات الجارية وتسابق الأحداث".
كما أشار القيادي في التنسيقية، أنّ "الأطر الحزبية لا تختلفُ كثيرًا عن ممارسات ثقافة السلطة في تدبير أمورها الداخلية"، "إذ تخشى من بروز كفاءات داخل الحزب، تتجاوز القيادات الحالية في إدارة الأحداث الجارية، خاصّة وأن هذه القيادات متورّطة مع النظام بشكلٍ أو بآخر، بفعل لعب أدوار لصالح السلطة، بعيدًا عن برامج أحزابها".
تحاول التنسيقيات السياسية الجديدة، أن تتجاوز خطابات الاصطفاف الإيديولوجي، وقطع الطريق أمام الاستقطاب من جماعات أو لوبيات، "رافعة خطابًا جديدًا يدعو إلى التعايش مع الكل" مثلما أشار حديبي.
في هذا السياق، يرى متابعون أن الأطر السياسية الجديدة التي ظهرت بعد الحراك الشعبي، هي "محاولة لخوض تجربةٍ سياسيةٍ نابعةٍ من الشعب، وليس صناعة من مخابر السلطة". هنا، يقول الناشط الحقوقي حليم بولحبال لـ"الترا جزائر" إنّ التجارب السابقة للأحزاب والجمعيات، أبانت عن مشكلة عميقة في العائلات السياسية الناشطة في الساحة، مضيفًا أنّها تحوّلت مع مرور الزمن إلى آلة مناسباتية، تخدم أغراضًا ومصالح وأجندات أشخاصٍ بعينهم، وانحرفت عن أهدافها التي أخرجتها للعلن في بداية التعددية الحزبية وحرّية التعبير، على حدّ قوله.
يعتقد الحقوقي بولحبال، أن هذه التنسيقيات من خلال ما لمسه في الاجتماعات التي شارك فيها، يراد منها تكوين كوادر يستفيد منها المجتمع ومؤسّسات الدولة، داعيًا إلى "ضرورة تنويع الفعل السياسي في الجزائر، خارج المجموعات السياسية التي توارثناها خلال الثلاثة عقود الأخيرة".
سياسة التموقع
تعدّد هياكل الممارسة السياسة في الجزائر ظاهريًا، يُثير خلافًا في الطرح حيال الأحداث الراهنة، وتتعدّد المقترحات لعلاج مختلف الأزمات التي تمرّ بها البلاد، لكنه في الآن ذاته "مظهرٌ من مظاهر أزمة المؤسّسة الحزبية في الجزائر"، يقول الباحث في الأحزاب السياسية ما بعد الربيع العربي الأكاديمي عبد الله حباشي لـ"الترا جزائر".
يضيف المتحدّث، أن أزمة المؤسّسة الحزبية تظهر جليًا في اتجاهين؛ "أولهما إخفاق الحزب في تطوير أدواته النضالية بما يستوعب كل كوادره بمختلف مستوياتها النضالية، وثانيهما طغيان الذاتية على الكادر القيادي للحزب السياسي، حيث يدفع به إخفاقه لأسباب تنظيمية أو مرحلية، إلى البقاء في الصفّ الأوّل للحزب، والبحث عن إطار لا ينافس الحزب في السياق التنظيمي، لكنّه يضمن له التصدّر والبقاء في مقدّمة أيّ فعل سياسي محلّي يخص محيطه".
الشارع الجزائري بات يرفض تأطير الأحزاب السياسية وقيادييها
يفسّر حباشي، ظاهرة هجرة السياسيين والنشطاء إلى التنسيقيات السياسية، بعدم قدرة الحزب السياسي في الجزائر على توظيف كوادره، ضمن مؤسّسات فكرية ملحقة أو مراكز بحث تفاعلية، وهو ما يدفع هذه الكوادر إلي الانشغال والانتقال إلى العمل في تنسيقيات طابعها سياسي واجتماعي في آن واحد، موضحًا أن أغلب المنخرطين فيها، سواءً كانوا شخصيات حزبية في السابق، أو مناضلين فضّلوا الابتعاد عن الأحزاب السياسية، حاولوا التكيّف أيضًا مع مواقف الحراك، الذي كان يرفض الأحزاب السياسية ويتّهمها بالتقاعس في مقارعة السّلطة، يضيف عبد الله حبّاشي.
اقرأ/ي أيضًا:
تعيين موعد الانتخابات الرئاسية في الجزائر.. تباين وقلق
غليان الشارع السياسي.. احتجاجات وإضرابات وقضايا فساد وانشقاقات داخل الأحزاب