13-يونيو-2024
مستشفى فرنسي

طاقم طبي يجري عملية جراحية في مستشفى بفرنسا (الصورة: يورونيوز)

وقّعت الجزائر في الفترة الأخيرة اتفاقات في مجال الصحة مع عدّة دول تتعلق بعلاج الجزائريين خارج البلاد أو قُدوم فرق طبية أجنبية للتطبيب بالداخل، وهي الدول التي لم تكن فرنسا ضمنها، ما قد يفتح المجال للتخلص من الاتفاقيات التي تجمعها بباريس في هذا المجال، والتي شكّلت في فترة الرئيس السابق الراحل عبد العزيز بوتفليقة أداة ضغط واستفزاز يستعملها الإليزيه ضدّ الجزائر كلما أراد.

الدكتور ملهاق لـ"الترا جزائر": التعاون الصحي مع المؤسسات الأجنبية من شأنه إنهاء سياسة المتعامل الواحد  وإتاحة فرصة العلاج للمرضى الجزائريين مع تقليص آجال الانتظار للحصول على العلاج

ومع الصعود المتواصل لليمين المتطرف في دوائر الحكم الفرنسي، أصبحت مهمة معالجة مختلف الملفات مع باريس بالشكل المطلوب، وعلى رأسها قطاع الصحة أكثر من ضرورة، لتفادي ابتزاز الجزائر بملف يمكن تفاديه بما أنها تملك فرصة توقيع اتفاقات مع بلدان متطورة في مجال الصحة، لأن الأمر يتعلق بدفع ملايين اليوروهات التي تذهب اليوم إلى الخزينة الفرنسية دون استفادة كبيرة للطرف الجزائري من  ذلك سوى العلاج.

اتفاقيات مع عدة دول

في 20 أيار/ماي المنقضي، وقّع الصندوق الوطني للتأمينات الاجتماعية للعمال الأجراء "كناس" اتفاقية شراكة مع المجمع الاستشفائي الإيطالي سان دوناتو، تهدف إلى الإسهام في تطوير التكفل الطبي بالمرضى الجزائريين في الخارج.

وقال وزير العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي، فيصل بن طالب، حينها إنّ الاتفاقية تندرج ضمن مسار تنويع مواقع الاستقبال وتحسين نوعية التكفل بالمرضى الجزائريين داخل وخارج الوطن.

وأثمرت هذه الاتفاقية بعد أسبوع فقط من توقيعها، بقدوم فريق من المستشفى الإيطالي للجزائر، حيث استقبلت العيادة المتخصصة في الجراحة القلبية للأطفال ببوسماعيل خلال الفترة الممتدة من 26 إلى غاية 30 مايو الماضي، فريقا طبيا تابعا للمجمع الاستشفائي الإيطالي الذي أجرى مع نظيره الجزائري 10 عمليات جراحيه لأطفال يعانون من أمراض القلب الخلقية المستعصية، وهي الحالات التي كانت سابقا تحول للعلاج بالخارج .

وحسب وزارة العمل، فإن هذا البرنامج سيتواصل على مدار السنة، ليستفيد أيضا الطاقم الطبي الجزائري من تكوين متخصص في مجال الجراحة القلبية الخلقية للأطفال على مستوى المجمع الاستشفائي الإيطالي سان دوناتو، وتشكل هذه النقطة تحولا مهما في الاتفاقات الصحية التي كانت تقتصر سابقا في أغلب الحالات على إرسال المرضى للعلاج بالخارج، والتي لا يستفيد منها حتى الآن إلا القليل من المواطنين.

وقام الفريق الطبي الإيطالي أيضا بزيارة العيادة المتخصصة في طب العظام والتأهيل لضحايا حوادث العمل بمسرغين، وذلك من أجل التحضير لبرنامج عمل مشترك للتكفل الطبي والجراحي بالمرضى المصابين باعوجاج العمود الفقري وتقوسه عند الأطفال، وهي الحالات التي كانت تحول أيضا  للخارج، لكن الحكومة تهدف إلى توقيف ذلك بجعل عيادة مسرغين إلى مركز مرجعي في طب وجراحة العظام وتكوين الأطباء و المختصين في هذا المجال، وذلك بالشراكة مع الإيطاليين.

ووقعت الجزائر قبل ذلك اتفاقية شراكة بين الصندوق الوطني للتأمينات الاجتماعية للعمال الأجراء والمركز الاستشفائي الجامعي البلجيكي بروغمان.

وتنفيذا لهذه الاتفاقية، سيقوم الطاقم الطبي للمركز الاستشفائي الجامعي البلجيكي بروغمان بزيارة للعيادة المتخصصة في جراحة القلب للأطفال ببوسماعيل والمؤسسة العمومية الاستشفائية المتخصصة في أمراض القلب وجراحة الأوعية كليرفال بالجزائر العاصمة، للاطلاع على جانب من التجربة الجزائرية في هذا المجال، وتحديد سبل التعاون بين الطرفين.

وينتظر أن توسع الجزائر تعاونها الطبي مع هافانا خلال الزيارة التي سيقوم بها وزير الصحة الكوبي إلى الجزائر نهاية 2024، حيث تتطلع لتشمل اختصاصات طب النساء و التوليد، والتخدير والإنعاش، وطب العيون والتصوير الطبي، وذلك في إطار تنفيذ ما تنص عليه اتفاقية التعاون في مجال الصحة المقرر التوقيع عليها قريبا بين البلدين، حسب بيان لوزارة الصحة، بالنظر لنجاح تجربة مستشفى طب العيون الكوبي بولاية الجلفة.

وقال الدكتور محمد ملهاق المختص في علم الفيروسات لـ"الترا جزائر" إن هذه الاتفاقات خطوة ممتازة لجعل التعاون الصحي للجزائر غير مرتبط بمتعامل واحد، كون الاتفاقيات الجديدة تسمح بتنويع الشركاء، فإيطاليا من الدول السبع وهي متقدمة في المجال الطبي وبالخصوص في مجال العتاد الطبي، إضافة إلى أن بلجيكا من الدول الأوروبية التي لها مستوى جيدا في مجال الصحة، أما كوبا فتعاوننا معها في طب العيون أعطى ثمارا مشجعة تجعل الحكومة تعمل على توسيع هذا التعاون.

وأشار إلى أن هذا التنويع في التعاون الصحي يمكن من نقل التكنولوجيا والمعرفة للكوادر الطبية الجزائرية في مختلف التخصصات، كونهم لا يبقون مرتبطين بتجربة معينة، إنما هذا يسمح أيضا بانتهال المعرفة الطبية من مدارس مختلفة سواء بإرسال بعثات للخارج أو استقبال البعثات الأجنبية بالجزائر.

تقليص

أكد وزير العمل فيصل بن طالب في مراسم التوقيع على كل هذه الاتفاقيات على أنه الهدف الأساس بالنسبة للحكومة هو تنويع مواقع الاستقبال وتحسين نوعية التكفل بالمرضى الجزائريين داخل وخارج الوطن، مما يسهم في تجسيد التزامات الرئيس تبون الرامية لترقية التكفل الصحي بالمواطنين.

وحسب بن طالب، فإن هذه الاتفاقيات هدفها إيجاد صيغ جديدة للتعاون في مجال التكفل الطبي ببعض الحالات المستعصية والتي يتجاوز عددها حاليا 6 أنواع من بينها زراعة الكبد وزراعة النخاع العظمي عند الأطفال، الذين لا تتجاوز أعمارهم 3 سنوات، إضافة إلى التشوهات الخلقية الشريانية الدماغية والمحيطية.

وأضاف أن تقليص التحويل للعلاج بالخارج يعد مؤشرًا معياريًا على تطور قطاع الصحة في الجزائر من حيث المرافق العمومية والخاصة والتجهيزات الطبية وكذا الكفاءات البشرية. موضحًا أن هذا التعاون مع المؤسسات الاستشفائية الأجنبية من شأنه أن يتيح للمرضى الجزائريين الاستفادة من تكفل صحي بالإضافة إلى تقليص آجال الانتظار للحصول على العلاج.

بالنسبة للدكتور محمد ملهاق، فإن الآثار الإيجابية لتنويع اتفاقات التعاون في المجال الطبي هي استفادة في جانبين، أولها مالية تتعلق بتقليص تكاليف إرسال المرضى إلى الخارج باستقبال بعثات طبية أجنبية تقوم بعمليات وتدخلات جراحية في المستشفيات الجزائرية، والثانية تتمثل في الاحتكاك العملي والعلمي الذي يتم بين الطواقم الطبية الجزائرية ونظيرتها الإيطالية والبلجيكية والكوبية، وغيرها من الدول الواجب الاستفادة من تجاربها في المجال الصحي لكي لا تبقى الاستفادة مرتبطة بالتجربة الفرنسية رغم أهميتها أيضا في هذا المجال.

تخلص

تشكل هذه الاتفاقيات توجها جديدًا في توجه الحكومة بشأن ملف إرسال الجزائريين للعلاج في الخارج، والذي كان في الغالب محتكرًا من قبل فرنسا التي ما تزال إلى اليوم تربطها علاقات بالجزائر في هذا المجال، حيث أرسلت الفنانة بهية راشدي منذ أسابيع للعلاج من السرطان إلى هناك.

ويعتقد أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة تيارت جيلالي كرايس أن توجه الحكومة لتنويع الشركاء بشأن علاج الجزائريين في الخارج يوشي بأن لها نية جادة في إنهاء الاحتكار الذي كانت تملكه المستشفيات الفرنسية في هذا الإطار. معتبرًا أن هذه الخطوة ستضع حدًا للاستفزازات التي كانت تقوم بها باريس بشأن هذا الموضوع خلال حكم الرئيس الراحل السابق عبد العزيز بوتفليقة الذي كان يفضل العلاج بمستشفياتها كغرونوبل وفال دوغراس.

ووصل الاستفزاز الفرنسي وقتها حتى التساؤل بشأن إن كان بوتفليقة يدفع ثمن علاجه في المستشفيات الفرنسية أم لا، الأمر الذي جعل هذا الملف محل جدل بين البلدين، خاصة أن ملف دفع الديون للمستشفيات الفرنسية لم يكن يخص الجهات العمومية فقط إنما الخواص أيضا، والتي تعدت 31.6 مليون يورو في 2015.

وذكر جيلالي كرايس أن فرنسا استعملت ملف علاج بوتفليقة في مستشفياتها في مرات عدة لإحراج الدولة الجزائرية، واستخدمته كورقة ضغط في عدة ملفات.

ووقعت الحكومتان الجزائرية والفرنسية على بروتوكول العلاج يوم 10 أفريل/نيسان 2016، إضافة إلى تفاهم إداري حول علاج الجزائريين في المستشفيات الفرنسية من أجل " تفادي المنازعات المالية"، وهو البروتوكول الذي لم يصادق عليه مجلس الشيوخ الفرنسي إلا في شباط فيفري 2018.

وينص البروتوكول على أن الصندوق الوطني للتأمينات الاجتماعية يسدد المصاريف الحقيقية لكشوف النفقات و تقارير المستشفيات التي يرسلها جهاز  فرنسي مكلف بالربط، في أجل ثلاثة أشهر على أساس كشف  سداسي شامل للديون التي كانت عالقة وقتها، والتي تطالب بها مجموعة مستشفيات باريس.

ورغم سريان هذا الاتفاق الذي تم التوقيع عليه في عهد بوتفليقة، إلا أن صانع القرار في الجزائر غيّر الوجهة العلاجية لرئيس البلاد بعد حراك 22 شباط فيفري 2019، حيث فضل الرئيس تبون التداوي في ألمانيا إثر الوعكة الصحية التي تعرض لها في خريف 2020.

وأوضح كرايس أنه يمكن قراءة تفضيل الرئيس تبون برلين للعلاج بدل باريس بأنها رسالة واضحة لفرنسا أن عهد الهيمنة والاحتكار في هذا المجال قد ولى، بالنظر إلى أنه خيار سابق لم يقدم شيئا للجزائر سوى استنزاف أموال الخزينة العمومية، وإغراء الكوادر الصحية الجزائرية، كون أغلب البعثات الطبية الجزائرية التي تذهب للتكوين في فرنسا لا تعود إلى الوطن، وتستقر في العمل هناك ما جعلها تعد بالآلاف بالمستشفيات الفرنسية

وبين كرايس أن تحقيق الندية في العلاقات مع فرنسا والتخلص من هيمنتها في عدة قطاعات يتطلب تنويع الشركاء في مختلف المجالات، لأن تحقيق الحرية في صناعة قراراتك وسياسيتك يتطلب أن تكون مصالحك الإستراتجية منها قطاع الصحة والعلاج غير مرتبطة بدولة معينة يمكن أن توظفها كورقة ضغط عند أي خلاف، وهو ما تستعملها فرنسا التي بنت كل علاقاتها مع الدول الإفريقية على أساس المصلحة الواحدة بعيدا عن الاستفادة المتبادلة، لذلك تعد هذه الاتفاقيات خطوات ممتازة وجب تثمينها وتشجيعها.

لا أحد ينكر أن تنويع الشركاء في مجال العلاج بالخارج أمر مطلوب وضروري، وبالأخص إن كان هدفه التخلص من التبعية للمستشفيات الفرنسية، إلا أن من الضروري أيضا أن تكون هذه الاتفاقات مجرد إجراء مؤقت سينتهي بتطوير قطاع الصحة محليا، وجعل الجزائر تستفيد من كوادرها الطبية الموجودة في جميع مستشفيات العالم، وذلك بالنظر إلى الصحة على أنه ليس مجرد قطاع خدماتي فقط، إنما مجال اقتصادي يمكن أن يساهم في دخل البلاد من العملة الصعبة مثلما يتم في دول أقل إمكانات من الجزائر ماليا وبشريا.