بعد صراع مرير مع المرض، عادت السيّدة فريدة (57 سنة) إلى الحياة مجدّدًا، حيث قاومت السرطان واجتازت مسافة أربع سنوات من العلاج بين ولايتي المدية والبليدة وسط البلاد.
من شروط المبادرة أن يقدّم كل شخص ما يستطيعه وحسب إمكانياته لكن يشترط ألا أحد يعرف مصدر المساعدة وكيف جُمعت
رحلتها لم تكن سهلة ولكنها مليئة بالدروس والعبر، دفعتها في النهاية لتؤسّس جمعية خيرية تحت مسمّى "مبادرة صامتة من القلب إلى القلب"، التفّ حولها كثيرون ممن خاضوا التجربة نفسها وغيرهم من المتطوّعين.
اقرأ/ي أيضًا: مرضى السّرطان في الجزائر.. بين آلام الانتظار وجرعات العلاج الكيماوي
في البداية الأمر كان بعيد المنال، فهي تؤمن بأن العمل الخيري يحتاج لقوة وصبر ونَفَس طويل، وأيضًا يتطلب غطاءً قانونيًا يضمن فيه المنخرطون حقوقهم ويحصلون على تسهيلات للقيام بمختلف النّشاطات، لكن نوعية المرض ومتاعبه اليومية وتبعاته النّفسية، دفعت السيدة فريدة إلى التفكير في طريقة جديدة، وهو "عمل خيري في صمت لكن منظّم ومحدد بأطر اتفاقٍ أخلاقي".
اللّقاء
في العام 2017 اكتشفت السيدّة فريدة إصابتها بمرض السرطان وبدأت رحلة العلاج من مستشفى إلى آخر، ومن طبيب إلى آخر ومن مكان إلى آخر، واستقرّ بها المطاف في العلاج الكيماوي في منطقة البليدة التي تبعد عن مسقط رأسها قصر الشلالة بولاية المدية وسط البلاد بحوالي250 كيلومترًا.
كان الأمر بالنسبة لها صعبًا جدًا، حيث أشار عليها البعض بالمبيت في "جمعية إحسان الخيرية" الواقعة في البليدة والتي تتكفّل بمبيت المرضى من كلّ مناطق الجزائر وهناك تعرّفت على نزيلات بمسكن الجمعية ممّن صاروا اليوم شركاء في مبادرة "من القلب إلى القلب" وتحمِل شِعار " نقف معكم دون أن ترى العين أو تسمع الأذن"، وهي طريقة من شأنها أن تمنح للمريضات حقّ الخصوصية والأمان وخاصة بالنّسبة للقاطنات في المناطق البعيدة عن مراكز علاج السرطان أو في المدن النّائية.
بدأت فريدة رحلة التّوعية على مستوى منطقتها، ولم تكن وحدها في الطريق الخيري، بل انضمت إليها كلّ من عرفتهنّ، على مستوى ضيّق عبر مسقط رأسهن، خصوصًا أن المجتمع الجزائري لازال محافظًا على تقاليد تمنع المرأة من القيام بالمبادرات البعيدة عن الأعين والبعيدة عن التّشهير بأصحابها، كما قالت سمية وهي إحدى النّاشطات في الجمعية.
البداية ميدانيًا، كانت بثلاثة أعضاء اتّفقن خلال إقامتهم بالجمعية بأن الفرج قريب وأن نهاية العلاج ستكون بتقديم المساعدة لكلّ الأمهات والفتيات اللواتي أصبن بالمرض ويتعذّر عليهن الحديث عن تجاربهن، ليرتفع عدد المنضويات تحت هذه المبادرة إلى خمسة ثم عشرة لتصبح اليوم مجموعة تضمّ أكثر من 35 فردًا من بينهم شباب جامعي متطوّع.
يتنقّل المشاركون في هذه المبادرة إلى عديد الولايات لتقديم المساعدة الاجتماعية للمريضات، ومنهنّ مختصات في علم النفس وأساتذة يقدّمن المساعدة في تحصيل الدروس لأبناء المتضررات من مشكلات اجتماعية بسبب المرض.
الأزمة تلد القوة
من رحم تلك الأزمة الصحية التي عاشتها فريدة بزغت لديها الفِكرة، إذ التقت بمن هن في نفس وضعيتها، فأرخت يدها لنزيلات الجمعية، وباتت الخطوات ناضجة حسب ما شرحت لـ"الترا جزائر"، موضحة أن البداية كانت صعبة "لكن التفّ حولنا أشخاص كُثُر من قريب أو من بعيد من بينهم المنضوين تحت المبادرة ومن المساعدين العابرين فقط"، على حد تعبيرها.
من جهتها أفادت العضوة في المبادرة، راضية سعدوني من منطقة الزبوجة بولاية الشّلف غرب الجزائر لها بأنّ "من يملك فكرة وضع اليد في عجينة الخير فليتفضل"، كما قالت، فالمبادرة حسبها مفتوحة لكل من هنّ في انسجام مع هذه الفكرة، خصوصًا من مرّوا في نفس الطريق، ومن وقفوا على معاناة الكثيرات خاصة القادمين من المدن النائية أو من الولايات البعيدة عن مراكز طبية، سعيا للعلاج والتعافي".
فيما تمكّن البعض مقاومة المرض بنجاح وصبر، تروي الكثيرات قصصًا مؤلمة عن نزيلات الجمعية اللواتي مررن بتجارب قاسية فمن هن من فرضت عليها عائلة الزوج الطلاق، بعدما مرضت، ومن هن من ودعت مقاعد الدراسة في الجامعة بعدما فقدت الأمل في العلاج، بينما هناك من لم تطأ قدمها مقاعد المدرسة منذ فترة الصبا، وهناك الأرامل، وهناك من هن في مقتبل العمر وتستحق لفتة طيبة لإعادة الروح لها.
الجميع في هذا الوضع الصّعب يحتجن يد ترفق بها، على حدّ تعبير سعاد ذات الـ27 عامًا، قائلة لـ "الترا جزائر" بأنها لم تلق أي تعاطف ممن خارج هذا الفضاء، "فمن لم يذق مرارة المرض والمعاناة"، -حسبها –"لا يمكنه أن يشعر بما يشعرن ولو أننا نرى في عيونهم العطف والتعاطف".
وأضافت المتحدثة، أن اشتغالها ضمن فريق هذه المبادرة ما هو إلا خطوة للاستمرارية والمقاومة، معتقدة أن مبادرة "صامتة" أفضل من مبادرات تفضح أنين الكثيرين يعيشون على هامش الحياة"، على حدّ قولها.
بعيدًا عن طريقة التّعامل مع هذه الفئة من الناس، فهناك جمعيات خيرية تمكّنت من مساعدة أصحاب هذه المبادرة، بتوفير بعض الأدوية والألبسة وأيضًا إدخال برامج للتكوين في شتى المجالات المهنية، للرّفع من استحقاق المتضررين من تداعيات المرض الخبيث، وبيئة داعمة لهم.
تحدّي المرض
لقد اتّحدت الكثيرات وبعض الشباب من أجل تقديم المساعدة مهما كان نوعها، دون إحراج أصحابها، أو تذكيرهم بالمرض، فإنهّ جرح غائر" مثلما عبّرت المختصّة الاجتماعية أنيسة طرافي لافتة في حديثها لـ"الترا جزائر" قائلة أن المرض في حدّ ذاته يحتاج تقبل من طرف صاحبته، وبعد ذلك تأتي مرحلة العلاج ولا يمكن أن يصحّ العلاج الطبي والصحي دون المتابعة النّفسية، لأن "المرض الخبيث يؤثّر نفسيًا على المرأة وأسرتها بل هناك من يقصِم ظهرها"، كما عبرت.
اقتسام الاهتمامات والهموم في آن واحد هو جزء من العلاج، يسعى كثيرون لتحقيقه في إطار تعزيز وتسيير هذه المبادرة التي بات عمرها اليوم أربع سنوات تقريبًا، وماهي إلا تجارب يومية لكلّ من اعتبرتها وسيلة لرفع الغبن وملء فراغ رهيب يصنعه المرض ومخاوف من عدم المعافاة.
من شروط المبادرة أن يقدّم كل شخص ما يستطيعه، وحسب إمكانياته وحسب قدرته على التواصل مع أشخاص آخرين لتقديم المساعدة، لكن بشرط ألا أحد يعرف مصدره وكيف تم تقديمه وطريقة جمعه إن كان مالًا أو قضاء مصلحة أو القيام بمفاجأة لإدخال السرور على قلب منكسر، تضيف المتحدثة.
كلّ ذلك يزيد المرضى والمحتاجين صبرًا وصلابة ومواجهة الأمور الصعبة، إذ يستمدون القوة من أعضاء المجموعة أنفسهم، على حدّ تعبير سعيد عبد اللاّوي في حديثه لـ"الترا جزائر"، وهو طالب جامعي بجامعة "جيلالي بونعامة" بخميس مليانة وسط الجزائر، لافتًا إلى أن أيّة خطوة يقوم بها تجلب له العشرات من المبادرين سواءً من الجامعة أو خارجها، وبذلك تتوسع مساعدات "من القلب إلى القلب" إلى مساعدات لتأثيث بيت إحداهن أو ترميمه أو مساعدة إحداهن في تمكين أولادها من الدراسة ومتابعتهم في ذلك الأمر.
إنقاذ الأبناء
الكثير من الحالات تحتاج إلى وقفة مع أبنائها وتقديم مساعدة لهم، خصوصًا منهم التلاميذ الذين ضيّعوا الكثير من دروسهم بسبب مرض الأمّ وانهيارها الصحي، أو غيابها الدّوري عن البيت بسبب تلقي علاجات كيميائية، وهو ما دفع المتطوّعين في إطار هذه المبادرة إلى تعليم الأبناء عبر تلقينهم دروسًا خصوصية لاستدراك ما فاتهم من الدّروس، وضمان استمرارهم في المدرسة.
ومن بين المتطوعين خالد ذو الـ37 سنة وهو أستاذ رياضيات تمكّن من تقديم يد المساعدة لفئة محددة من التلاميذ وخصوصًا في فترات الامتحانات، ومنهم من يفتقد دفء الأسرة وفي غياب الأم التي تعرضّت لمرض يحتاج إلى تكفل طويل الأمد.
كما اعتبر انضمامه لهذه المبادرة خطوة في مشروع حياة كاملة، يستهدف فيها التلاميذ من مختلف الأعمار وتقديم مساعدات لهم مما يقدر عليه، فالمال وحده "لا يكفي للوقوف إلى جنب هذه الفئات" حدّ تعبيره لـ "الترا جزائر" موضحًا أن تجاوز هذه المحن يحتاج تظافر جهود الكثيرين من حيث عدة جوانب.
بعيدا عن الأضواء
"الخير الخفي أو الخير الصامت"، هو مواجهة مجتمع مازال يستنزف المرأة خاصّة إن أصيبت بمرض يزيد العبء على الرجل، على حدّ تعبير المختصة النفسانية كريمة بوجناح من ولاية المسيلة، لافتة في تصريح لـ "الترا جزائر" أن المبادرة الإنسانية لا تحدّها الأطر الإدارية والوثائق بالقدر ماهي تخفف عن المرضى، إذ تقدم خدمات إنسانية تقوم على العمل الإيجابي يعود بالنفع على النساء والفتيات في حالات مرضية صعبة تحتاج لمساندة ودعم".
وأضافت أن المبادرة تطوعية وهو فعل إنساني بالدرجة الأولى، يحاول المنخرطون فيها تكريس التضامن الاجتماعي والنفسي بتقديم مساعدات مادية ومعنوية، وتلبية حاجات اجتماعية وثقافية ومهنية لعدد من الأفراد.
تبرز أهميّة العمل التطوّعي كثيرًا في خضم تعقيدات العلاقات الاجتماعية وتشعب المتطلبات الاقتصادية وظروف الحياة المتغيرة
تبرز أهميّة العمل التطوّعي كثيرًا في خضم تعقيدات العلاقات الاجتماعية وتشعب المتطلبات الاقتصادية وظروف الحياة المتغيرة، وغالبيتها تحول من عمل تطوعي فردي إلى أعمال جماعية منظّمة يشرف عليها البعض سواءً في جمعيات معروفة وهي كثيرة في الجزائر، أو في شكل مبادرات تهدف إلى تقديم خدمات مجتمعية يصعب توفيرها من طرف الدوائر الحكومية.
اقرأ/ي أيضًا:
زهرة عريبي.. جزائريّة تغلّبت على السرطان بالورود
الجزائريون في "حملة فيسبوكية".. نريد مستشفى لسرطان الأطفال