24-سبتمبر-2019

زهرة عريبي (تقي زيان/ الترا جزائر)

حدّثني صديقي الصّحافيّ تقيّ زيّان، عن فتاة تجاوزت محنة سرطان الحنجرة بحبّها ورعايتها للورود والنّباتات العطريّة، في مدينة مجّانة، 200 كيلومتر إلى الشّرق من الجزائر العاصمة، فطلبت منه أن يأخذني إليها. ومن غرائب الشّغف أن كان اسمها موافقًا لما هي شغوفة به، إذ كان اسمها زهرة.

أجّلت زهرة العلاج الكيماويّ لسرطان الحنجرة أربع سنوات، رغم حرص الأطبّاء والأسرة على إجرائه

في الجهة الغربيّة لمدينة مجّانة، التّي تُعدّ من أخصب الأراضي في الشّرق الجزائري، حتّى أنّها استقطبت نخبة كبيرة من المزارعين المستوطنين خلال المرحلة الاستعماريّة الفرنسيّة، ظهر لنا بيتان بلاستيكيّان يتوسّطان قطعة أرض صغيرة تحرسها فزّاعة طيور مصنوعة من القشّ، وفتاة ثلاثينيّة لا ترفع رأسها عن أرضها، فكأنّها راهبة لا تغادر محرابها.

اقرأ/ي أيضًا: سرطان الأطفال في الجزائر.. رحلة مع الضحايا

كاد الفضول يحملني على أن أسألها مباشرةً: "هل فعلًا شفيت من السّرطان بسبب الورود؟". لكنّني تحّكمت في فضولي وسألتها عن تاريخ علاقتها بالنّباتات العطريّة، فقالت إنّها حفيدة لجدٍّ عمل بستانيًّا في فرنسا، خلال سبعينات القرن العشرين، "وحين عاد أورث خبرته لأمّي، التّي حثّتني على الالتحاق بمعهد التكوين المهنيّ وأتخصّص في البستنة".

نالت زهرة عريبي (1983) شهادة في البستنة، لكنّها لم تستعن بها في إيجاد وظيفة، "فأنا أكره الشّغل عند الآخرين. ولم يخطر في بالي أن أحوّل ما في حوزة أسرتي من أراضٍ إلى مشتلة للورود والنّباتات العطريّة، بالنّظر إلى أنّ الأمر يتطلّب رأس مال كبير تقتضيه تهيئة الأرض وتوفير الماء والبذور والبيوت البلاستيكية. فالورود مثل الأطفال الصّغار تحتاج إلى رعاية خاصّة".

غير أنّ إصابتي بسرطان الحنجرة عام 2003، تقول محدّثة "ألترا جزائر"، جعلتني أفكّر في المشروع جدّيًا، إذ قلت لنفسي إذا حدث أن أخذك السّرطان إلى باطن الأرض، فموتي وأنت تخدمينها. ثمّ لماذا أبقى طريحة الفراش لأتلقّى باقات الورد من المواسين، عوضًا عن أن أكون أنا منتجة للورود؟".

كانت زهرة تتحدّث إلينا من غير أن تتوقّف عن خدمة ورودها. فهي إمّا تسقي حوضًا لورود باتت جاهزة، أو تنتزع الأعشاب الضّارة من حوض ورود أعلنت عن نفسها حديثًا، أو تضيف سمادًا لحوض آخر. "إنّ الورود تلهمني في حديثي مع الآخرين، وفي حديثي إلى نفسي، إذ تعلّمت معها كيف أواسي نفسي بالحديث إليها، فأنا أصبح داخل مشتلتي اثنتين، هذه تحدّث هذه، فلا أشعر بالخوف من المرض ولا أفكّر فيه كثيرًا".

أدرك إخوة زهرة أهمّية المشروع في حياة شقيقتهم، فوقفوا إلى جانبها في تجسيده، حتّى راح يكبر من مجرّد أحواض صغيرة وقليلة ومكشوفة، إلى مشتلة تتكوّن من بيتين بلاستيكيين يضمّان عشرات الأنواع من النّباتات العطرية. منها ما يوضع في الشّرفات، ومنها ما يوضع في داخل المنازل، ومنها ما هو مخصّص للزّينة، ومنها ما هو مخصّص لإنتاج البذور. ولا تنفكّ زهرة عن الإسهاب في الحديث عن خصائص كلّ نوع بروح العارفة والعاشقة معًا.

أجّلت زهرة العلاج الكيماويّ لسرطان الحنجرة أربع سنوات، رغم حرص الأطبّاء والأسرة على إجرائه، "إذ كنت مستغنية عن العلاج بتسخير أوقاتي وأعصابي واهتمامي لأجلي ورودي. والحقَّ أقول إنّها كانت كريمة معي، فمنحتني قوّة وإرادة لمواجهة المرض، الذّي اندهش الأطبّاء لزوال أعراضه". تضيف: "إذا كان للسّرطان من علاج، فهو إيماننا بالحياة وبقوانا الدّاخليّة. وما يؤسف له أنّ المصاب به في مجتمعنا ينهار سريعًا بسبب أنّ المحيط يملك طريقة بائسة وخاطئة في مواساته، إذ يذكّره بالموت أكثر ممّا يحثّه على الحياة".

زالت الخلايا السّرطانية من حنجرة زهرة ولم تبق إلا أعراض جسديّة قالت إنّها ستتخلّص منها بشغف آخر

زالت الخلايا السّرطانية من حنجرة زهرة. ولم تبق إلا أعراض جسديّة قالت إنّها ستتخلّص منها بشغف آخر مرافق لشغفها بالورود ،هو شغفها بقراءة الشّعر. تسأل: "هل ثمّة فرق بين الوردة والقصيدة؟ مثلًا هل هناك فرق بين مشتلة ورودي وديوان أبي القاسم الشّابّي؟ لا أرى فرقًا بينهما. بالتّالي ستشفي قراءة الشّعر اعوجاج فكّي، مثلما شفت رعايتي للورود حنجرتي من المرض الخبيث". تختم: "السّرطان الحقيقيّ أن نكره بعضنا ونكفّ عن منح السّعادة والفرح للإنسانيّة".

 

اقرأ/ي أيضًا:

الجزائريون في "حملة فيسبوكية".. نريد مستشفى لسرطان الأطفال

موت آلاء.. الصحة الجزائرية في قفص الاتهام