19-أبريل-2020

أبناء حي الدويرات بالبليدة يتطوّعون لطلاء واجهات المنازل (فيسبوك/الترا جزائر)

"منذ أنّ كنتُ صغيرة، كانت والدتي تصرّ على ثلاثة أشياء في مثل هذه الأيام المباركة، طلاء البيت وإخراج الأواني الجميلة، وتقطير ماء الورد، لاستعماله في الحلويات الخاصّة بشهر رمضان في منطقة البليدة، لكن تختلف الأوضاع هذه السنة، مع انتشار فيروس كورونا وفرض الحجر الصحّي العام على مدينة الورود"، تقول السيدة مسيكة ذات الخمسين عامًا.

الكثير من شباب الأحياء العتيقة في ولاية البليدة، رفعوا شعار الاحتفاء بشهر رمضان، وتنظيف الشوارع وتزيينها

مرّت الأيّام والسنوات، دون أن تحيد مسيكة عن عادات "زمان" التي ورثتها من والدتها في حي باب السبت بولاية البليدة. قلبها يتقلّب بين سعادة غامرة لاستقبال شهر الصيام، وبين حزنٍ طال أمده بتضرّر العائلات البليدية، نفسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا بسبب الوباء، كما ذكرت في حديث إلى "الترا جزائر".

اقرأ/ي أيضًا: الإشاعات في زمن كورونا.. السلطة تعوّض غياب المعلومات بالملاحقات القضائية

في زمن كورونا

في الجزائر، تعوّدت العائلات أن تستقبل الضيف العزيز"سيدنا رمضان" بأبهى حلة، بعادات تجذّرت عبر الزمن، أهمّها تزيين البيوت وطلاء الجدران، وتنظيف جميع الأغراض من ملابس وأفرشة، وتغيير ديكور البيت والمطبخ، فضلًا عن تزيين فناء الدار، احتفاء بـ "الضيف الغالي الذي يزور المسلمين كل حوْل، يأخذ من عمرهم سنة ويزيح عنهم الهمّ لعام كامل".

عبارة تفرح الكثيرين، على اعتبار أن القادم، هو شهر ليس كبقية شهور السّنة بالنسبة للمسلمين، والعام يفرح بقدوم الزّائر الخفيف والكريم، على حدّ قول الشيخ محمد سليماني من منطقة اولاد يعيش في حديث إلى "الترا جزائر"، مردفًا: "كل يوم يمرّ منه، يلتهِم فيه من أعمارنا أيامًا بعدد الشهر، في مقابل ذلك يُزيح في الوقت ذاته همومنا مع هذا الوباء الفتّاك".

صناعة الفرح

في كل أزمة جانب مضيء، كما قال السعيد فرحي "في كلّ أزمة جزءٌ لا نعرفه، ولا نخبره"، مسترجعًا في حديث لـ "الترا جزائر" أيام شهر شبّاط/فيفري الماضي، بالقول: "كثيرة هي الأسواق الشعبية في البليدة، وكثير ما تخرج العائلات لاقتناء الأواني الجديدة وشراء مؤونة سيدنا رمضان، لكن الأمر صار غريبًا بين عشيّة وضحاها، فقد أصبحت البليدة مدينة أشباح، تغيّر كل شيء، خوفٌ وحزنٌ باديان على الوجوه".

الكثير من شباب الأحياء العتيقة في ولاية البليدة، رفعوا شعار الاحتفاء بشهر رمضان، وعمدوا إلى تنظيف الشوارع وتزيينها للخروج من جو الكآبة التي نجمت عن انتشار الوباء، يقول الشاب فرحي وهو طالب بكلية الهندسة بجامعة البليدة، مضيفًا: "رمضان يزور الجميع كل سنة، هناك من وجده العام الماضي، وهناك من يتخلّف عنه هذه السنة".

هي عبارة مؤلمة يردّدها سكان الحي الشّعبي الدويرات بمدينة الورود البليدة، إذ فقدت الولاية العشرات بسبب وباء كورونا، غير أنهم رغم ذلك، يحاولون الاستعداد لاستقبال رمضان، بحلة مختلفة عن السنة الماضية، تجاوزا للألم والحزن والتطلّع لغدٍ أفضل.

"إن شاء الله تزهى الوريدة مثل هذه الألوان"، هذا هو حال لسان شباب أقدم حي في البليدة، حي الدويرات الذي يضمّ عشرات البيوت القديمة، وهو يشبه حي القصبة العتيق بالعاصمة الجزائرية، وحال لسان السيدة حليمة، ذات الستين عامًا، التي قالت لـ "الترا جزائر"، إن شباب الحي يسعون إلى "تكسير الحجر الصحّي بتزيين البيوت وطلاء الجدران بألوان زاهية، مبهجة، بعدما غابت الفرحة عن قلوبنا منذ تفشي الفيروس.

أمل من الأزقة الضيقة

في هذا الحي التاريخي الشعبي، الذي يتميّز بتفرع شوارعه الضيّقة، تتميز بيوته أو "الدويرات" تصغير لكلمة "دار"، بوجود فناء البيت أو ما يطلق عليه بـ "وسط الدار"، حيث تصنع النساء ماء الورد المقطّر بطرق تقليدية، إذ لا يخلو بيت في البليدة من عبق رائحته، ويكون حاضرًا في مائدة القهوة والشاي في الأيام العادية، ولكن في رمضان بشكلٍ لافت، إذ يُعبأ في مرش نحاسي يضاف للقهوة، أو يتم إضافته في خلطة صناعة الحلويات فيعطيها نكهة مميّزة، وغالبا ما يضاف أيضًا للعسل عند استخدامه في تزيين مختلف الحلويات الخاصّة بسهرات الشهر الفضيل.

هذه الطريقة التي لجأ إليها شباب حي الدويرات وغيرها من الأحياء القديمة في البليدة، كانت وسيلة لإعادة الأمل في النفوس، خصوصًا أن جميع الأصداء في البلديات المتاخمة لجبال الشريعة، تتردّد فيها أخبار حزينة عن العائلات التي باتت في الحجر الكلي، تنتظر الفرج والعودة للحياة اليومية، فهذه الألوان تعطي البهجة وتفتح الشهية للتعاطي مع يوميات الحجر الصحّي كباقي الأيّام للتغلّب عليها، واستمرار الحياة مهما كانت تبعات الوباء وتكلفته الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية. 

الكثير من شباب الأحياء العتيقة في ولاية البليدة، رفعوا شعار الاحتفاء بشهر رمضان، وتنظيف الشوارع وتزيينها

على غير أيّامها العادية، ورغم حالة السكون التي تعرفها المنطقة، بسبب تدابير الحجر الصحّي، يرى كثيرون أن التمسّك بعادات استقبال شهر رمضان كل عام تخفّف من ثقل المعاناة اليومية، بل أكثر من ذلك، إنّه عنوان لعزيمة الانتصار اليومي على سواد الحزن وأوجاعه، ودفع فاتورة تكاليفه الباهظة، كما قال رضوان بن عطا الله لـ "الترا جزائر"، معبّرا عن أمله الكبير في ما هو قادم، رغم كل الكآبة التي أحاطت النفوس في مدينته، قائلًا إن الحياة ليست فقط باللّونين الأسود والأبيض، وأن الوباء شبحٌ يمكن للألوان أن تهزِمه، على حدّ تعبيره.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الإشاعات في زمن كورونا.. السلطة تعوّض غياب المعلومات بالملاحقات القضائية

الأزمة الوبائية في الجزائر.. أين هي الحكومة الإلكترونية؟