06-نوفمبر-2022
إقامة جامعية للبنات (فيسبوك/الترا جزائر)

إقامة جامعية للبنات (فيسبوك/الترا جزائر)

يتفق كثيرون، أن أكثر ما يحتفظ به الطلبة الجامعيون بعد تخرجهم، الفترة اجتازوها في الأحياء الجامعية، والصداقات التي كونوها في مرحلة شاقة من حياتهم التعليمية بعيدًا عن المجتمع العائلي، وربما أعادت مواقع التواصل الاجتماعي لم شمل أصدقاء الغُرفة الواحِدة والجَنَاح الواحد والحيّ الجامعي الواحد بعد سنوات وقد صاروا مسؤولين وإطارات وموظفين.

عرفت الأحياء الجامعية لجوء عشرات الموظفين للإقامة بشكلٍ غير نظامي بها عقب نيلهم شهادات عليا

في أحد مُستشفيات الجزائر، دخلت مسرعة لجناح العمليات، أبحث عن البروفيسور (بوحدة. ن) لم أكن أتوقّع أن تكون هي تلك الفتاة التي رافقتها طيلة أربع سنوات فترة إعدادي لشهادة الليسانس بالحيّ الجامعي للبنات ببن عكنون بالعاصمة الجزائرية، مع كثرة الأسئلة والأجوبة المتوقّعة عن المرض والاستماع لقرار مجموعة الأطباء حيال الأمر الطّارئ، وضرورة إجراء عملية جِراحية، اكتشفت أنّها هي؛ بل وراحت تقول في نهاية الأجوبة التي كانت تقدمها ببرودة في البداية ثم بصوت منخفض إلى أن ابتسمت أخيرًا، ألستِ فلانة...؟ أجبت دون وعي: "ماذا يمكنني أن أتذكّر في هذا الظرف بالذّات".

جمعتنا الأقدار بالحي الجامعي، ففي وقت إعداد البروفيسورة في جراحة الأعصاب لرسالتها الأخيرة قبل أن تنال امتحان الاختصاص وولوج عالم تخصص طب الأعصاب، كانت مجرد طالبة بكلية الطب" لابيرين" سابقًا القريبة من ساحة أول ماي بالعاصمة الجزائرية، وتقدّم حاليًا دروسًا في كلية الطب بجامعة الجزائر 1، إذ  مازالت تتذكّر هذه المختصة برتبة بروفيسور كيف كان الحي الجامعي مثيرًا للقلق بالنّسبة لطلبة الطبّ وخصوصًا أنّهم دون استثناء يحتاجون إلى رفاهية الهدوء الذي لا يمكِن العثُور عليه في أكبر تجمّع للبنات ممن كان لهم نصيب في توديع سنوات الثّانوية والدخول إلى الجامعة، فجميعهن قادمات من مدن مختلفة.

كانت تقتسم الغرفة مع زميلة لها في الدراسة تخصّص الطب، بينما تدرس بقية النزيلات في الغرف اللّصيقة لهما تخصّصات علمية أخرى، فمنها من قدِمت من ولاية جيجل وأخرى من تيزي وزو وواحدة من قسنطينة،وأخريات من ولاية تمنراست وأيضًا من الجلفة و الأغواط، تشكيلة وتنوّع جزائري يطبعه اختلاف اللّهجات، حتّى أن الواحدة فيهن تقضي أيامًا وأشهرًا حتى تتعلم من صديقاتها لهجاتهن.

المرض.. العودة

في الأحياء الجامعية، لا ينعَم الطّالب بالهدوء إلاّ في أوقات الفجر، كما قالت الدكتورة بوحدة، أصيلة مدينة جيجل، شرق الجزائر، ففي تلك الأوقات الكلّ نائم ويسعدها أن تنال قسطًا من المراجعة، موضحّة لـ"الترا جزائر" لقد كنّا نسهَر ونصحو على الكتب قبل اختيار التخصّص الحالي، مشيرة إلى أن "الحيّ الجامعي كان عقوبة وامتحانًا عسير ًا قبل أن يكون ملجأ لأي طالب قادم من خارج العاصمة".

رغم صخب الأجنحة الجامعية في المبيت الطلابي بحيّ البنات وبعض الظروف السلبية، إلا أنّ السيدة بوحدّة تحنّ لذلك الزّمن، "قبل عشرين سنة كاملة عرفت الفرح والحزن والنجاح والاحتفالات بأعياد الميلاد والانتهاء من الامتحانات وقضاء شهر رمضان مختلف جدًا فله نكهة خاصة فيما بين المُقيمات، وغيرها من اليوميات التي لا يمكن عيشها سوى في حيّ جامعي".

مهنة المتاعب

بعيدًا عن تفاصيل صعوبة التّعايش في الأحياء الجامعية، فكثيرون ممن مرّوا على ذلك الفضاء الدراسي وجدوا بعض المعيقات في البدايات، فتوديع العائلة والثانوية ليس بالأمر الهيّن، إلاّ أنّه أخرج كوادر جزائرية يُشهَد لها بالصّبر والتّفاني والإتقان في عملها اليوم، كما قالت الإعلامية صورية بوعمامة (إعلامية في التلفزيون الجزائري).

وأضافت في إفادتها لـ"الترا جزائر" حول تجربتها كطالبة جامعية ثمّ نجمة التلفزيون عايشت سنوات الجمر التي شهدتها الجزائر، قائلة إنّنا "وُلِدنا في الدّاخل الجزائري، من عُمق المعاناة جِئنا، أغلبنا اختار الإصرار والمقاومة وكلّ حسب مقدرته وجهده، بل هناك من فضّل البقاء في الجزائر من الإعلاميين وكانوا يرجعون ليلا للأحياء الجامعية وكانوا عُرضة لتهديدات الجماعات المسلحة زمن العشرية السوداء".

ظلّ الحي الجامعي مَعبرًا لافِتًا لعشرات الإعلاميين، حتى بالنّسبة لتلك الأسماء اللامعة في سماء الإعلام الجزائري والعربي والدولي، لكنه كان بمدخلين: الأول وعرًا وقاتمًا خصوصًا في سنوات الدّم والدّموع، إذ بات الملجأ لصحفيين كانوا يظهرون في الشّاشة الوحيدة في الجزائر ويحتمون بأسواره ليلًا، بعضهم لازال يتذكّر ويعترف: "هنا رسمت أحلامنا، هنا بكينا لفقدان عزيز أو زميل، هنا بكينا كثيرًا وفرحنا كثيرًا".

أما المدخل الثّاني فكان هذا الفضاء الدراسي ملاذًا لأغلب الصحافيين يحلمون بالعمل في مجال تخصصهم، ولا تسمح لهم ظروف تموقع العشرات من المؤسسات الإعلامية في العاصمة إلا بالمرور على قضاء سنوات أخرى في الأحياء الجامعية، بسبب غلاء أسعار تأجير شقق وهذا أمر آخر، إذ عرفت الأحياء الجامعية لجوء عشرات الموظفين للإقامة بها عقب نيلهم شهادات عليا بشكلٍ غير نظامي أو متخفي كما يشرح الكثيرون، بل وينعتها البعض بـ" العيش في الظلّ".

يقرّ البعض أنّ الحيّ الجامعي هو أقسى وأجمل تجربة يعيشها البعض بمختلف مفارقاته وتناقضاته العجيبة، إذ يتعرفون على عادات بعضهم البعض، وتتشكّل فيه العلاقات مع مرور الأشهر والسّنوات والتّجارب والمواقف أيضًا، إنّه فعلًا تدريب يسبِق الدخول إلى عالم الوظيفة والمهن.

مكان واحد ..أصوات مُتعدِّدة

يعترف كثيرون أيضًا بأن الحيّ الجامعي كان الممرّ الوحيد للآلاف من الجزائريين للعبور إلى عتبة التّعليم العالي والبحث العلمي، ممرّ مزَج ومازال يفعل بين مختلف الأطياف المجتمعية في الجزائر، لثقافة متعدّدة الألسن بين العربية والأمازيغية هناك ترف التعرّف على عادات وتقاليد منطقة بمنطقة، فالحي الجامعي يروي قصة الإنسان الجزائري من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب بألوانه المتعدّدة.

تحمل الأحياء الجامعية قصصصا مضحكة ومؤلمة ومفرحة وقاتمة أحيانا، تسرد كريمة بن عبد الرحمن (طالبة سابقة في علم النّفس وموظفة حالية بأحد مراكز العناية بالمعاقين بولاية قسنطينة) شرق الجزائر، تجربتها قائلة لـ"الترا جزائر"، " لقد مررنا بالكثير من الصِّعاب وربما هي من كان لها الفضل في صنعنا ونجاحنا أيضًا وهذا أهم مكسب، كثيرون نجحوا وأصبحوا ما هم عليه الآن".

جمَع الحي الجامعي العشرات من الصداقات "العابرة"، لكن في المقابل هناك من العلاقات ما اشتدّ عودها بعد التخرّج، حيث هناك من وثَّق حبال المودّة والعِشرة بعد سنوات طويلة من اكمال الدّراسات العليا.

كما حافظت الكثيرات على ذلك "الميثاق الأخلاقي" كما وصفته حياة زياني (محامية وتحضر لشهادة الدكتوراه في العلوم القانونية) من منطقة " المسيلة" جنوب العاصمة الجزائرية لـ" الترا جزائر" أن حافظت على أغلب صداقاتها في الحيّ الجامعي، حتّى بعد الزواج، إذ هي اليوم تتواصل باستمرار معهم في المناسبات وتسأل عن أحوالهم وأخبارهم وتتقاسم معهم المسرات والأحزان أيضًا.

عالم آخر

تحوّل الحي الجامعي بعد انتِهاء سنوات فترة الدّراسة إلى "مبيت مُؤقّت" للعديد من الموظّفين الذين وجدوا في العاصمة الجزائرية ملاذًا لهم، فالحصول على منصب يعد إنجازًا بعد الحصول على الشهادات العليا، ولا توجد فرصة للتحجج بعدم وجود مأوى أو منزل للإيجار لا يقى غالبية الطلبة المتخرجون على توفيره.

من مفارقات المرحلة الانتقالية، لعديد الأساتذة والدّكاترة، أنهم يدخُلون قاعات الدُّروس والمحاضرات في الصّباح، ليلتقون مجدّدًا بطلبتهم مساءً في المطعم الجامعي، إذ قالت الأستاذة الجامعية فريدة. ن، إنّها قبل أن تستقلّ ببيتها الأسري، كانت تُقدَّم المحاضرات صباحًا وتقتسِم غرفتها مع طالبة جامعية في المساء، لكن "يكنّ لي الجميع بالتقدير والاحترام"، إذ أسهمت في تكوين جيل من الطلبة طيلة تسع سنوات.

أسود في أبيض

مرحلة ما بعد إنهاء الدراسات العليا، متناقضة جدّا، إذ كشف أحد الأساتذة بدرجة بروفيسور، أنه يوم مناقشته لأطروحة الدكتوراه تلقى عشرات التهاني في الشارع في المحلات من طلبته، ومن زملائه الأساتذة، وفي المساء عاد أدراجه للمبيت في الحي الجامعي، وهو القادم من منطقة تبعد العاصمة الجزائرية بـ 700 كيلومترًا جنوبي البلاد.

يبقى الحيّ الجامعي صرحًا من صُروح العلم والعلاقات الاجتماعية الضيّقة، لكن ذكرياته مدرسة مفتوحة حسب سمية ملفي (طبيبة عيون بمصحة خاصة) في حديثها إلى "الترا جزائر": "مرارته حُلوة وحلاوته مُرّة أمّا الأولى فقد علّمتنا بينما الثّانية تُوقِظنا أننا سنغادر الحي يومًا وسنفارق نازليه".

كان عدة أساتذة في الجامعة يلتقون طلبتهم مساءً في المطعم الجامعي بعد الإشراف عليهم في قاعات الدروس صباحًا

بعيدًا عن ظروف العيش في الأحياء الجامعية، إلاّ أنّها كانت من وجهة نظر البعض مساحة للاكتشاف ومناجم للأفكار والإبداعات ومرايا يرى فيها كثيرون الألفة التي تتشكّل مع مرور الأيام، والأحلام التي تتمشّى نحو إنجازات الرّحلة مع كلّ نجاح.