خَلفت تعليمة وزارة الثقافة والفنون، بمنع برمجة وبث الأغاني ما سَمتْه بـ "المبتذلة" في كل الفعاليات الثقافية، نقاشًا بين المهتمين وسجالا وسط رواد المواقع السوشيال ميديا، بين مرحب بالتعليمة، خصوصًا بعد انتشار ما اعتبرته وزارة الثقافة "التجاوزات الأخلاقية في كلمات بعض الأغاني الجزائرية"، فيما يرى الطرف الثاني أن قرار وزارة الثقافة يُشكّل وصاية على الذوق العام ورقابة على الفن.
تتباين الآراء حول مسألة الأغاني الجزائرية بين من يقرّ بوجود إشكالية تتعلق بمضمون الأغاني التي باتت تحمل مضامين العنف والكراهية وبين آخرين يرفضون الرقابة الفنية
ويتحجّج هذا الطرف أن تعلمية الوزارة قد تفتح الأبواب أمام التأويلات الشخصية حول مضمون الكلمات والأغاني، علاوة على تصنيف المغنيين غير المرغوب فيهم، دون الحاجة إلى وجود قائمة رسمية للمعنيين بالتعلمية.
في الجانب الآخر، يقف طرف ثالث في موقف وسط بين هذا التباين، إذ يقر بوجود إشكالية تتعلق بمضمون الأغاني التي باتت تحمل مضامين العنف والكراهية ضدّ النساء، وقد تشجّع على استهلاك المؤثرات العقلية، بيد أن آليات وكيفية المعالجة لا تكون عبر المنع والرقابة وصرف النظر عن أسباب ميلاد هذا النوع من الأغاني، ولماذا تلقى هذه الطبوع الغنائية إعجاب ملايين المتابعين.
وبحسب البيانات الرسمية الصادرة من وزارة الثقافة، فإن ما اصطلح على تسميته بالأغاني المبتذلة، محصور في الأغاني المتضمنة "تحريضًا على تعاطي المخدرات، والتشجيع على الهجرة السرية والعنف والجريمة في الشارع أو في العائلة أو في الوسط المدرسي"
القيم وتواثب المجتمع
في السياق، بررت وزارة الثقافة قرار بالمنع، أن" الأغاني المسجلة بشكلٍ عشوائي تعمل على نشر الابتذال والانحراف، وتشجع على العنف والجريمة، وتابعت" بالإضافة إلى التحريض على تعاطي المخدرات والتشجيع على الهجرة غير الشرعية".
ويتماشى القرار مع "الضوابط القانونية التي تحرص على عدم السماح لكلّ ما يخالف قيم وثوابت المجتمع الجزائري وتماشيًا مع القانون الذي يعاقب على الاعتداء على الآداب العامة وما يمسّ بالقيم والثوابت المعبرة عن الهوية والأصالة".
ويأتي قرار وزارة الثقافة بعض استجواب أعضاء في البرلمان التشريعي من كتلة التيار الإسلامي، عن ظاهرة انتشار ما اعتبره أغاني هابطة، تحمل كلمات ومحتوى متبذل، ويطالب برلمانيون من كتلة حركة المجتمع السلم المحسوب على التيار الإسلامي، وزارة الثقافة بالتدخل ووضع حدلانتشار هذا الطابع الغنائي الذي يشجع حسبهم على الانحراف، ويُشكّل بوابة أمام كل المخاطر التي تهدد الشباب الجزائري، من وجهة نظرهم.
ماذا نعمل بالمتابعين؟
في مقابل ذلك، يرى آخرون أن هؤلاء المغنين باتوا يستخدمون وسائط غير رسمية ويعملون خارج الهياكل الثقافية العمومية، خصوصًا بعد انتشار الطابع الغنائي كالرب والهيب هوب والزنقاوي وتسويقه في العالم الرقمي، إذ يحضون بالقبول والتقدير من قبل الملايين من الشباب، وتَحوز أغانيهم على ملايين من المتابعين والمشاهدين على يوتيوب وتيك توك ومختلف الوسائط السوشيال ميديا، وبالتالي فالمنع أو الرقابة على الذوق العام وسط عالم التكنولوجيا المنفتح على العالم، بات قرارًا لا يتماشى مع الواقع و إجراء عفا عنه الزمن.
ويرى أنصار هذا التوجّه التحرري، أن حظر التعبيرات الفنية التي لا تتوافق مع مسار الأيديولوجي والمفهوم الأخلاقي للسلطة دائمًا ما يجد طريقة للوجود والتعبير، سواءً في الملعب أو على منصات التواصل الاجتماعي، ويؤكد أنصار هذا التيار أن الرغبة في المنع ليس حماية المجتمع من الانحرافات الأخلاقية، بل إرادة في تنميط المجتمع وفق الفكرة الواحدة والذوق الفني الواحد، ورفض لكل أنواع المختلفة من الأذواق الفنية والغنائية خصوصًا تلك التي تتميز بالتمرد سواء على السلطة الأبوية-السياسية أو السلطة الأخلاقية.
التهذيب
في سياق متصل بالموضوع، يعتبر مراقبون ومهتمون بالشأن الثقافي، أن التعليمة التي أقرتها وزارة الثقافة بمنع وبث ما اعتبرته "الأغاني المبتذلة" في الفعاليات الثقافية، أمر عادي ومقبول شكلاً، إذ يتعلق بأنشطة ثقافية تقع في هياكل تتبع إداريًا وتنظيميًا للوزارة، ومعروض فني مقابل أموال من الخزينة العمومية، حيث يجدر بالتالي الحرص على احترام الشروط العامة والذوق العام أو الالتزام بمعايير "الثقافة الرسمية البروتوكولية".
العالم الرقمي
مغنو الطابع الراب والهيب هوب والزنقاوي، أصبحوا ينتجون أغانٍ وكليبات خارج الأطر الرسمية وبمعزل عن الدوائر العمومية، ويعتمدون على عوائد مالية من المنصات الرقمية، يحدّد مداخيلها عدد المتابعين والمشاهدين على غرار يوتيوب وسبوتيفاي وعدد من بودكاست الموسيقى.
وهذا الابتعاد والخروج من الدوائر الرسمية سمحت لهؤلاء المغنيين الذين ينحدرون من الهامش والضواحي الشعبية، جعلهم أيضًا يبعتدون عن ما يوصف بالمعايير والالتزامات والمفاهيم الأخلاقية-الوطنية، ويستمدون محتويات أغانيهم وكلماتهم من التعابير السياسية والاجتماعية،وتعبر عن التذمر من المستوى والنمط المعيشي، وفق قاموس مقتبس من الواقع السفلي والهامشي.
الآذواق الفنية
في السياق ذاته، لم تعد آليات معالجة لاأذواق الفنية تتم وفق الرؤية البطريقيةوالشمولية، التي تفرض الرؤية والذائقة الفنية في عصر الملتيميديا والعالم الشبكي والرقمي، وعلى ضوء ذلك، فإن سٌبل علاج أي انحراف فني لا يكون عبر المنع والحظر والإلغاء، بل بالقبول والتهذيب والاحتواء والمعالجة الفنية السليمة والولوج العالمية
فعلى سبيل الذكر ، فالطابع الغنائي للراي كان في أوساط السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي غير مرغوب فيه اجتماعيًا، ويُعتبر طابعًا متبذلًا، غير أن احتواء الرسمي لفنانين أمثال مغني الراي محمد خليفاتي الملقب بالشاب مامي أو خالد حاج إبراهيم المعروف فنيا بالشاب خالد، حيث مَكَنا الظهور الإعلامي الرسمي لهما من تهذيب الطابع الغنائي للراي وبات أكثر قبولًا وتتبعًا وسط العائلات عبر السهرات التلفزيونية وأثير الإذاعة، وقد ينطبق الشأن على المغني الراب مهدي كولوغلي معرف بـ (فلان - Fleen ) أو عبد الرؤوف دراجي الملقب فنيًا بـ "سولكينغ" والذي نشط مراسيم افتتاح ألعاب بطولة أفريقيا للمحليين/ شان 2023.
لم تعد آليات معالجة الأذواق الفنية تتم وفق الرؤية البطريقيةوالشمولية، التي تفرض الرؤية والذائقة الفنية في عصر الملتيميديا والعالم الشبكي والرقمي
وعلى العموم، إن إلغاء أي طابع غنائي أو فني يتضمن الهواجس المجتمعية التحتية، لا يمكن أن يدفع هذا الأخير إلى الزوال أو الاختفاء بل المزيد من التشدّد والتمرد، وتصل دائمًا تعابيره إلى الأوساط التي تعبر عن واقعها المعيشي، كما أنه من غير المسؤولية حصر العنف والجريمة والهجرة غير الشرعية أن سببها أغاني مبتذلة.