تعوّد الشيخ محمد صفوان البالغ من العمر 67 سنة على النهوض باكرًا، وعلى السير إلى المسجد والعودة للبيت لتناول الإفطار في منزله بحي سيدي عبد القادر، تكون وجهته اليومية بعدها، محلّه لبيع الزهور أو"عالمه الأجمل". هو العالم الذي يشمّ فيه رائحة الورد فقط، وكل يوم تتفتح الورود أمامه كيوم جديد، كما يقول.
في بدايات الأزمة، كان هناك توجّه لتحميل ولاية البليدة وسكانها المسؤولية عن ظهور وباء كورونا
21 عامًا مع الورود
يوميًا، يقوم بتهيئة الورود وتوريتها بالماء، يستفتح يوميًا بكلمة "يا فتاح يا رزاق"، لكن لأوّل مرة يعيش العمّ محمد، هذه الوضعية، ويواجه هذا القدر المفروض على عامة السكان في حذيثه إلى "الترا جزائر"، إذ منعه، تفشي فيروس كورونا، من الذهاب إلى دكّانه الصغير، بساحة التوت بقلب مدينة البليدة، هناك يتجدّد لقاؤه بالزهور بمختلف أنواعها وألوانها، وقيامه بتهيئة الورود في شكل باقاتٍ، وباستقبال زبائنه كما اعتاد، لحظات لا يجد لها الكلمات المناسبة.
اقرأ/ي أيضًا: كورونا.. ارتفاع عدد المصابين إلى 409 حالةً
بعد بدء، مهلة عملية عزل ولاية البليدة (45 كيلومتر غرب العاصمة الجزائرية)، من طرف السلطات الجزائرية، وتنفيذ إجراءات الحجر الصحّي العام، للحدّ من انتشار كورونا، لم عمي محمد سوى استرجاع ذكرياته في هذا المحلّ، الذي شيّده منذ 21 سنة، أي منذ نهاية التسعينات، بعد سنوات ذاقت فيها البليدة وغيرها من المدن ويلات الأزمة الأمنية، "لكنها خرجت كأوراق الورد من الغصن، ومنحت عطرها لكل الناس"، على حدّ تعبيره.
حنين جارفٌ للزمن الجميل، وحسرة بادية على وجهه، في انتظار عودة الحركة للمنطقة، بدا جليًا في أحاديث سكّان البليدة من الأحبة والأقارب والمواطنين أيضًا، ممن سبق لـ "الترا جزائر" أن زارتهم أو تحدثت إليهم، تزامنًا مع بدء الأزمة الوبائية. يحنّون إلى المدينة التي لا تعرف الهدوء. مدينة صنعت أفراح الجزائريين خلال بطولات المنتخب الوطني الجزائري لكرة القدم، ولمدينة تشبثت بالألوان والأزهار إذ تعرف بـ "مدينة الورود"، ومدينة الفن والمسرح والثلج.
جغرافيًا، تتميّز المنطقة بجمالها الطبيعي، إذ تحيط بها جبال الشريعة، التي جعلتها من المناطق السياحية المهمّة في الجزائر، إذ تعد مزارًا لآلاف السيّاح من كل المدن الجزائرية في عزّ الشتاء، يقول علاّوة بوكرامي أحد تجّار ولاية البليدة، من منطقة موزاية، في حديث إلى "الترا جزائر"، مضيفًا أن ولايته تعتبر فضاءً غابيًا تحتضن العشرات من العائلات والأطفال في عطلة الربيع، فضلًا عن حماماتها المعدنية في منطقة حمام ملوان السياحية.
اللافت في هذه الأزمة، أن البليدة، هي أكبر منفذٍ بري لمختلف العابرين من المواطنين من وإلى الولايات الدّاخلية في الجهة الغريبة للبلاد، ومن هذه الولايات إلى العاصمة الجزائرية.
حركة وسكون
يتحدّث البليديون بخوفٍ وتوجّس كبيرين عن مدينتهم، في وقت بدأت السلطات الجزائرية تنفيذ تدابير عزل مدينة البليدة غرب العاصمة الجزائرية، بعد قرار مجلس الأمن القومي، القاضي بوضع الولاية تحت طائلة الحجر الصحّي لمدّة عشرة أيّام، للحدّ من انتشار فيروس كورونا في المنطقة، بعدما تم تنصيب حواجز أمنية في مجموع مداخل ومخارج ولاية البليدة، من قبل وحدات الأمن والدرك الوطني لعزلها عن باقي الولايات، ومنع أي دخول أو خروج من الولاية دون ترخيص، إضافة إلى تنصيب حواجز على الطريق السريع الذي يربط مدن وولايات غرب الجزائر بولاية البليدة، وأغلقت كل المداخل إليها .
عكس الأيّام الماضية بدت الحياة بطيئة جدّا عبر شوارع المدينة وأحيائها، وحتى على مدنها الكبرى، مثل موزاية والشفة والعفرون ووادي جر، إذ منعت السلطات حركة السيارات والحافلات داخل الشوارع والأحياء، إلا برخصة، تقول نسيمة أستاذة جامعة البليدة لـ "الترا الجزائر"، في وقت عُرفت المدينة سابقًا بالمدينة المفعمة بالحياة في النهار والليل، فهي "مدينة المسرح التي برع فيها كبار المسرحيين في الجزائر، وأبرزهم الفنان الراحل محمد توري، كما تعرف بالموسيقى الأندلسية، ومدينة الرسم والجمال التي برعت فيها الفنانة والعصامية المعروفة باية، كما أنها مدينة الدعاة والشيوخ، على غرار الشيخ الداعية محفوظ نحناح" تقول المتحدثة.
البليدة والإعلام
مع الإحصائيات المسجّلة، استغرب كثيرون أن توجّه وسائل الإعلام تغطيتها الرئيسية على ولاية البليدة، منذ بداية ظهور حالات الإصابات بالفيروس، إذ سجلت أول حالة بالمنطقة، وسط صدمة ورعب من تفشي الفيروس وانتقاله إلى ولايات أخرى.
في سابق الأيّام كان للحياة اليومية في "بليدة الوريدة" طعم آخر، لكنها اليوم باتت "مدينة أشباح" يقول أحد سكانها لـ "الترا جزائر"، فعدم الخروج، يعني البقاء في "بطالة مقنّعة"، أيّ مفروض على الجميع الالتزام بالحجر المنزلي، بسبب الوباء لمدّة 10 أيام، إذ تعدّ البؤرة الأولى والأكبر للفيروس في الجزائر، بعد أن تجسل وفات ثمانية أشخاص و150 حالة إصابة مؤكّدة بالفيروس.
في بدايات الأزمة، كان الاتجاه السائد في البداية "متمركزًا فعلًا حول تحميل ولاية البليدة وسكانها المسؤولية عن ظهور وباء كورونا، واعتباره بؤرة تفشي حقيقية، لكنّه مع الوقت ومع تطوّر الوضع وظهور حالات أخرى في مناطق عديدة من البلاد، وبدء تدفق أخبار عن أن أغلب الحالات كانت مستوردة، عن طريق مهاجرين قادمين من الدول الأوروبية، لاسيما فرنسا وإيطاليا، لتتوجّه أصابع الاتهام نحو المهاجرين الذين نالوا حظًا وافرًا من العتاب و الكراهية وتحميلهم مسؤولية انتشار الوباء.
كثيرون استهجنوا عبارات التهكّم التي لحقت المنطقة وسكانها، بعد أن باتت في نظر البعض "بؤرة الوباء"،إذ "مع مرور أيام أزمة كورونا، انخرط البعض على مواقع التواصل الاجتماعي، في سباق التهجّم والتهكّم على ما يجري في ولاية البليدة، متجاهلين حقيقة الوضع وخطر هذا الفيروس، التي ينتشر بسرعة مذهلة تكاد تكون وفق متتالية هندسية بلغة الرياضيات"، بحسب تصريح أستاذ الإعلام والاتصال عبد العالي زواغي.
عمومًا، الإعلام يعتبر جزءًا من الحلّ في أيّة أزمة كانت، غير أنّه "بات اليوم جزءًا من المشكل حيال ما جرى في مدينة البليدة"، مثلما كشف عنه مختصّون في اتصال الأزمات، وما يفسّر هذا المعطى، أنه في حالات الأزمات، تظهر كثير من الإشاعات والأخبار الزائفة، وتتكاثر في الفضاء العام ووسائل التواصل الاجتماعي الافتراضية، إذ تعمل بذلك على "تغذية ونشر الخوف والهلع في النفوس"، مثلما ذكر قال الأستاذ زواغي ، مفصّلًا في حديث لـ"الترا جزائر" بالقول: "ما يُعاب على وسائل الإعلام، بشقيها التقليدي والحديث، أنها كانت جزءًا من المشكل وليست جزءًا من الحلّ، من خلال تجرّدها من القيم المهنية والقيمة للتغطية الخاّصة بفيروس كورونا، واهتمامها المفرط بنقل معلومات وأخبارها تفتقد للدقة والاحترافية، والتركيز على عواجل مستمدّة من مصادر رسمية وغير رسمية، دون أن تكلّف نفسها عناء التنقل إلى مكان الحدث والاستعانة بخبراء ومتخصّصين لشرح ما يجري على الأرض بعلمية، دون تهويل أو تهوين، ودون المساس بصورة مدينة البليدة وأهلها".
عزا مختصّون طريقة التناول الإعلامي لأزمة كورونا إلى افتقار هذه الوسائل لصحافيين متخصّصين في إعلام الكوارث والأزمات
وعزا مختصّون طريقة التناول الإعلامي لأزمة كورونا، انطلاقًا من اكتشاف الحالة الأولى بولاية البليدة، في 26 شباط/فيفري الماضي، وحالة التخبّط البادية في وسائل الإعلام الجزائرية على مدار أيّام الأزمة إلى غاية قرارات الحجر العام للولاية، إلى افتقار هذه الوسائل، لصحافيين متخصّصين في إعلام الكوارث والأزمات، ونقص التكوين في هذا المجال الحساس، والسعي المحموم وراء بريق السبق الصحافي".
اقرأ/ي أيضًا:
تداعيات انهيار أسعار النفط.. حكومة جراد لا تملك الكثير من الأوراق
لمواجهة فيروس كورونا.. مبادرات فردية خارج حسابات الإجراءات الحكومية