في منطقة درقانة شرق العاصمة الجزائرية، وقبل 21 عامًا من الآن وبالضبط في 21 أيار/ماي 2003، نمت الكثير من البيوت والمساكن والفيلات كالفطريات، على طول الحي الذي توسّع وقتها بشكل منتظم إلى أن حدثت كارثة الزلزال التي مست عددًا من الأحياء بولايتي الجزائر العاصمة وبومرداس، ووقتها كل تلك البنايات غرقت في عمق الأرض وتهاوت كالورق.
باحث في علم اجتماع السكان لـ "الترا جزائر": كثير من الجزائريين لا يهتمون بشكل المِعمار ولا يكترثون لطرق البناء
هذا المشهد، يعيدنا اليوم إلى وضعية عديد الأحياء الجزائرية وطريقة تشييد البنايات، فالكثير منها "منشآت حمراء"، إما غير مكتملة ويطغى عليها لون الآجر الأحمر، والمنتشرة في مختلف المدن، وإما بنايات دون شكل هندسي متناسق أو طابع عمراي متقارب، أو يراعي أهمية المعمار ومتطلبات العمران.
خطوة البناء الأولى..
كثيرون ينظرون إلى أن أي بناء يتطلب أساسًا متينًا ومخططًا واضحًا لتوزيع مكوّنات البيت، لكن في المقابل يتسمرون في مكانهم إن حدثتهم عن أول خطوة لذلك، نحو عديد الأسئلة التي نطرحها الآن تباعًا، نحو: هل يستعين الجزائريون بالمهندس المعماري قبل البدء في حفر ووضع حجر الأساس لبناء منازلهم ثم تجهيزها للسكن؟ أم أنّ هذه الخطوة ملغاة من قائمة الاهتمامات؟ هل كل المهمة في هذه الحالة ملقاة على عاتق البنّاء أو الاعتماد على مخطّط يفكر في تنفيذه صاحب البيت أو يستلهمه من مقترحات يقدّمها أحد أفراد العائلة أو الأصدقاء؟ أم يكفي أن يطلع البعض منهم على تصاميم عبر وسائط التواصل الاجتماعي والمنصات المتخصصة، دون التفكير في مساحة الأرض وموقعها ومستلزماتها؟
أين السكن؟
تطرح البنايات الجزائرية في مختلف الأحياء والمدن عبر البلاد، فرضية يشير إليها الباحث في علم الاجتماع السكان، الأستاذ عبد الكريم سالمي، مفادها أن ماهو موجود في الميدان وعلى مرمى العين يؤكد أن الجزائريين لا يهتمون بـ"شكل المِعمار" ولا يكترثون لطرق البناء، وغالبية العائلات تهرع لبناء "منازل وليس مسكن".
لذا يضطر البعض، حسبه، إلى إعادة النظر في البناء وتجهيز البيت من جديد، وتغيير بعض التفاصيل التي تشمُل مكوناته الأساسية نحو توزيع خيوط الكهرباء وأنابيب الغاز والمياه وقنوات الصرف الصحي، إلى توزيع الغرف ومساحة المطبخ، ومنه إلى الحمام و السّلالم، ثمّ إلى الطابق الأعلى للبيت، أو حتى إعادة ترميم ما لا يمكن ترميمه بعد فوات الأوان، وربما تهديم البناء الجديد الموجود من وجهة نظر البنائين وإعادته من الصفر بنظرة مغايرة تماما لما هو موجود.
كل ما سبق يعزوه البعض إلى عدم اللجوء إلى مخطط يتكفل بتحضيره المهندس المعماري في البداية، إضافة إلى استشارة المختصين في البناء والتشييد والمقاولات، لينتهي الأمر بكثيرين إلى إعادة بعض التفاصيل بعد فوات الأوان، في المقابل من ذلك خسارة ضعف الفاتورة المستحقة ودفع تكلفة باهظة.
كثيرًا ما يميل صاحب العقار إلى تلبية رغبته القوية لبناء البيت الذي يبتغيه، وربما يرسمه في ذهنه قبل رؤيته في طور الإنشاء والتنفيذ وإنهاء الإنجاز على أرض الواقع، ولكن من الأجدر أن يسأل مختصاً في الهندسة المعمارية وفي المعمار، واستشارته حتى يتمكّن من بناء منزل يليق بالأسرة ويستجيب لمختلف متطلبات الحياة وظروف أفراد الأسرة المتغيّرة.
دائرة ترميم المرمّم
كثيرون باشروا البناء حسب " الأهواء"، كما يردّ السيد نورالدين (67 سنة)، على الأسئلة، فمن خلال تجربته يقول لـ"الترا جزائر" إنّه اكتشف بعض الأخطاء في ترتيب الغرف واللواحق المنزلية، بعد مدة زمنية من إنهاء البناء، وإضافة إلى تلك الأخطاء التي يمكن تعديلها لاحقًا- حسب نظره-، لم يوفق في تقدير المسافات في أدوات وتجهيز المطبخ والحمام وغرفة الضيوف، واتجاه الأبواب والنّوافذ أيضًا.
يصف تلك الأخطاء بـ"القاتلة"، وربما لا يمكن تعديلها أو تحسينها، وحتى إن كان الأمر ممكنًا فإنها تعني البناء مرتين، "تكاليف أخرى ومصاريف زائدة وقلق أكبر أثناء رحلة البحث عن بناء وتلك قصة أخرى".
تعتقد بعض العائلات بأن تشييد منزل هي مهمة توكل للبنّاء، إذ تقول الخبيرة المعمارية، صبرينة فردي، أن ذلك يرهق أصحابها الكثير مع مرور الوقت، مشدّدة على أن العديد من العائلات يمتثلون لآراء هذا الحرفي، لكن في المقابل فإن الأهم قبل كل ذلك، هو تخصيص ميزانية وسائل البناء ثم الاعتماد على البناء في تشييد البيت بحسب "مزاج" أصحاب القطعة الأرضية.
وقالت فردي لـ" الترا جزائر"، بأن البعض يعانون من هذه الجزئية في البدايات، أثناء تشييد بيوتهم والبدء في إعادة تهيئة منازلهم، لأنهم باشروا في التشييد دون استشارة مهندس معماري، وقبل ذلك عليهم أن يعيدوا حسابات الأرض وعمقها، مع مراعاة الموقع الجغرافي، فضلا عن تأسيس مخطط بناء على الواجهات التي ينصح بها خبراء الفنّ المعماري.
ومن خلال حديث هذه المهندسة يتّضح أن عملية البناء ليست الأمر الأساسي في تشييد أي منزل، فهناك خصائص مهمة تستحق من أي شخص يُقبِل على تجهيز منزل جديد أن يولي لها أهمية قصوى، منها مكان وضع الأبواب والنوافذ وإحاطة البيت بمساحة خضراء للتهوية، فضلا عن عدد الطوابق اللازم تجهيزها، في مقابل ذلك " وجب مراعاة مسألة البناءات الموجودة في الجوار إن كانت سكنات للعيش أم مؤسسات وغيرها من اللواحق الإدارية مثلًا".
حلم التنفيذ
بالنسبة للمختصين، فإن البناء عبارة عن مخطط يحدث أن يبرمجه صاحب العقار في ذهنه قبل أن يضعه على سكة التنفيذ في الواقع، إذ يتحدث البعض في تصريحاتهم لـ" الترا جزائر" عن خضوع المعمار الجزائري والبناءات عمومًا إلى رغبات آنية وربما أهواء فوضوية، إذ تحوّل الكثيرون إلى مختصين في المعمار دون وعي منهم.
ويروي علي . ن (56 سنة) بأنه في البداية فكر برفقة زوجته في تشييد منزل بإحدى القطع الأرضية في مسقط رأسهم بولاية "جيجل" شرق الجزائر، غير أنه مع مرور الوقت تمّ تغيير المخطط الأولي وكلّفهما ذلك الملايين، فضلا عن تغيير البنائين ثلاث مرات.
وأضاف لـ"الترا جزائر" بأن منزله لم ينته إلا بعد سبع سنوات من الإنجاز والانتظار، مشيرًا إلى أن أي منزل بني على إرضاء الرغبات فقط؛ فإنّ نهايته ستكون " مأساوية" و" غير مرضية" مع مرور الوقت، خاصة فيما تعلق بإنشاء مطبخ على مساحة كبيرة دون مراعاة وظيفة ملحقاته، التي يمكن أن تكون، مع مرور الوقت عامل ضغط لا وسيلة راحة بالنسبة للزوجة وحتى للأسرة كاملة.
فوضى البناء
شعور بالنّدم يعتري كثيرين، فها هي الزوجة تدّعي قدرتها على تخطيط معماري يستجيب إلى خصوصية البيئة التي تعيش فيها، وها هو الابن عرّيف بطرق تنضيد الغرف بما يتناسق مع متطلبات العصر، وها هي الجدة ترفض مقترحاتهما وتطلب بناء البيت تبعًا لما تعرفه عن العمارة القديمة التي لا ترقى لمتطلبات الحياة السريعة والمتعِبة، بينما اتفقوا جميعًا على أنّ البنّاء المكلف بالتّشييد يعلم كل شيء وله صلاحية اتخاذ القرارات في تشكيل البيت دون المرور على مهندس مختص.
وكل هذه الآراء، هي مبنية على خلفيات ذاتية، لا صلة لها بالعمارة وبقواعدها، ولكن الأكثر خطرًا إنها تؤول إلى بناء فوضوي، وهذا ما يُعيق تطوير البنايات الجزائرية والأحياء السكنية.
المعمار والعمران متلازمان
في يومنا هذا قبل الإنشاء والإنجاز والتهيئة، باتت البيوت تستحق التفكير لمرات عدة إذ يعترف المختص في فن الهندسة والمعمار كريم صيودة بأن الكثيرون يفكرون بفردانية ومن خلفية أنهم يعلمون كل شيء، ويطرحون مسألة تشييد بناء بأنها متاحة لأي كان، لكنها في الواقع غير ذلك.
في هذا المنحى، يؤكد المهندس صيودة على أهمية الغوص في ذاكرة المدن، وتوجيه البِناء نحو جعله سهلًا للعيش بعيدًا عن تعقيدات حياة الأفراد، موضحًا لـ" الترا جزائر" بأن كثيرًا من العائلات الجزائرية تعاني اليوم من مشكلات جمة تسببها البنايات المشيدة، دون مراعاة ظروف الأفراد في العائلة الواحدة وصعوبة تعاطيها مع مستجدات وضعية الأشخاص مثلًا عند التقدم في السن، إذ تصبح بعض محتوياته عقبة أمام صاحب البيت و غير آمنة.
مهندس لـ "الترا جزائر": عائلات جزائرية تعاني اليوم من مشكلات جمة تسببها البنايات المشيدة، دون مراعاة ظروف الأفراد في العائلة الواحدة
بالرغم من كل ذلك، فإن هذا لا يمنع من وجود بنائين متخصصين بعد خبرات السنين، ولديهم نظرة هندسية في التعامل مع المكان، وشروط التجهيز، وبإمكانهم تقديم مقترحات عدة لها جاذبيتها في البناء وتروق لها العين، لكن الاستغناء عن رأي المهندس ووضع ميزانية خاصة به قد يكلف إعادة "نشر النّشارة " كما تقول الحِكمة، فعمومًا تجاهل أهمية هذه الخطوة الأخيرة وتخصيص مبلغا ماليا لدراسة وهندسة البيت قبل بناءه قد تكلف صاحبه مبلغًا مضاعفًا، ويضطره في الأخير إلى إعادة تشييد البناء من جديد.