لم تحظ كثيرٌ من المدن الجزائرية العريقة، بمثل ما حظيت به قصور غرداية السبع، الواقعة جنوبي الجزائر، وهي غرداية ومليكة وبني يزڨن و بونورة والعطف، و القرارة وبريان، المصنفة منذ العام 1982، من طرف اليونسكو تراثًا إنسانيًا، من إشادة عابرة للأوطان والجغرافيا، لفرادتها العمرانية الآسرة للزائرين، حتى أن المهندس العالمي لوكوربيزييه رأى فيها، منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، بصفته رائد العمران الحديث، إرثًا عريقًا يعتمد على الحكمة الروحية والترتيب الهندسي، سابقة بذلك، فكرة التنمية المستدامة منذ ألف عام.
الدكتور أحمد نوح لـ "الترا الجزائر: أطلقنا على المشروع اسم تافيلالت تجديدت (تافيلالت الجديدة) تخليدًا لتلك القرية التي نشأت قرب بني يزڨن، مع الحفاظ على تقنيات الأجداد في التشييد والبناء
لذا سينفق الرجل من حياته خمسة أعوام كاملة، امتدت بين 1950 حتى 1955، ليشيد كنيسة نوتردام دو نوروشامب بفرنسا، مستلهما التصاميم الخارجية والتفاصيل الدقيقة من ضريح ومسجد سيدي إبراهيم بقصر العطف المبني في 1012 ميلادية.
كثيرون هم المعماريون العالميون، الذين تقاطروا على "البنتابول" وهي تسمية للمدن الخمس: غرداية، ومليكة، وبني يزڨن، و بونورة، والعطف، بحثًا عن أفكار مستقبلية بالعودة إلى الزمن الغابر، فقد زارها المهندس حسن فتحي و أندري روفيرو، وخرجوا من بين أزقتها و مساجدها و عمائرها بأفكار ونظريات أكدت أن الماضي يصلح للمستقبل،و بأن ابتكارات الأوائل إرث إنساني يقبل التشارك.
إرث خالد
في أعالي قصر بني يزڨن (حوالي 650 كلم إلى الجزائر العاصمة) قرية قديمة تسمى تافيلالت لا تزال تحتفظ بمسجدها الصغير والقديم، وأمام التوسّع العمراني الهائل الذي أجبر السكان على البناء في عمق الواحة التي تضم نخيلًا وبساتين، تمخضت فكرة حماية الاقتصاد المعيشي من التغول العمراني الزاحف. إن تلاقي هذه الرغبة الحيوية مع أزمة السكن الخانقة التي تكشفت بعد أحداث تشرين الأوّل/أكتوبر 1988، ولدت الفكرة في عقل الطبيب أحمد نوح وخمسة من رفاقه، فبدأوا العام 1997 في تدوير المشروع التشاركي الذي وحد بين هؤلاء الرفاق الذين أسسوا تحت رعاية المجتمع المدني جمعية أميدول، والسلطات العمومية، خاصة الوالي المرحوم مختار عثماني، الذي واكب المشروع، بحثًا عن صيغة ملائمة توفر السكن للشبان الأزواج المنحدرين من الطبقة المتوسطة بأسعار مقبولة.
يقول الدكتور أحمد نوح لـ "الترا الجزائر: "كشفت لنا دراسة أعدها مكتب في ديدوش مراد بالعاصمة بأن الجزائري يحتاج لإنفاق مرتبه كاملًا على مدار 60 و65 سنة، لاكتساب شقة ذات أربع غرف. وأمام استحالة ذلك قررنا اللجوء لفكرة بناء سكنات بالاعتماد على المواد المحلية، مثلما فعل الأسلاف، الذين أسسوا مدنًا من الحجر والجبس والجير، زهيدة الكلفة.
أطلقنا على المشروع، يضيف المتحدث، اسم تافيلالت تجديدت (تافيلالت الجديدة) تخليدًا لتلك القرية التي نشأت قرب بني يزڨن، مع الحفاظ على تقنيات الأجداد في التشييد والبناء، التي صانت الروح الاجتماعية للمجتمع، وكانت تعتمد على فكرة التسيير الذاتي المتحكم فيه، "لقد كان أجدادنا يبنون قصورًا أي مدنا صغيرة خارج التجمعات المتشبعة، لغرض واحد هو توفير القدرة على تنظيمها و تسييرها، كما أنها ترمي لصيانة الضمير الجمعي للساكنة الذين يعرفون بعضهم بعضًا، و يساهم ذلك في الحفاظ على الأعراف الاجتماعية من احترام الجيرة و التقيد ببنود العيش المشترك".
وطبعًا، يستطرد أحمد نوح، فإن "المواد المستعملة من حجر وجير وجبس، هي مواد طبيعية عازلة للصوت والحرارة، وعليه يمكن القول إن تافيلالت الجديدة التي وُلدت عبر صيغة تساهمية بين الدولة التي باعت الأرض العمومية بالدينار الرمزي، وأنجزت الشبكات المختلفة من مياه وصرف صحي وكهرباء من جهة، وبين الأعيان الذين أسسوا شبه هيئة مقاولة دون تلقي الأرباح من جهة أخرى، والمساهمين الذين استفادوا من معونة الصندوق الوطني للإسكان، خلال فترة وزير السكن المرحوم محمد نذير حميميد، هي أول صيغة برنامج سكن التساهمي عرفته الجزائر منذ الاستقلال".
زروال وبوتفليقة
في شهر أفريل 1997 كان الرئيس الأسبق اليامين زروال يضع، خلال زيارة رسمية لوادي ميزاب، حجر الأساس للمدينة الجديدة فوق جبل صخري يمتد على مساحة 22 هكتارًا، دون أن يكون متقينًا من التجسيد الفعلي لها، لعلمه بمصائر مشاريع الإسكان المتعثرة بين فكي البيروقراطية وشحّ التمويل عبر التراب الوطني.
يعقب أحمد نوح لـ "لترا الجزائر" على هذا الموقف مبتسمًا: "لقد سألني زروال في دعابة أحقًا ستنهي هذا المشروع في هذا الجبل الأجرد؟ يبدو الأمر مستحيلًا، فأجبته:إن شاء الله، فرد ضاحكًا: "إيه.إيه. إن شاء الله".
إلى هنا يروي المتحدث، أنه في شهر شبّاط/ فيفري من سنة 2004، كان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة يدشن المشروع ويوزّع مقررات الاستفادة على مجموعة من 50 مواطنًا، حيث كان يجري آنذاك إنجاز 723 وحدة سكنية سعيًا إلى رفعها إلى 1050 منزلًا متوزعًا من حيث المساحة، بين الدور الصغيرة والمتوسطة والكبيرة.
مردفًا: "وفي زيارة ميدانية، قبل أشهر، شرح لنا مرشدنا مختار دادا أسرار هذه المدينة البيئية الفاضلة، التي بعثت روح وشكل مدن بني ميزاب القديمة في مطلع الألفية الثالثة، فالدور مبنية طبقًا للقصور القديمة شكلًا ولونًا، ومتناسقة في الطول الذي يخضع لعرف 7.5 متر، دون تقابل الأبواب حفاظًا على خصوصية العوائل والحريم، أما مواسير تصريف مياه الأمطار من السطوح، فصُممت في تباعد مع جدر الواجهات الخارجية تفاديًا لاحتقان الرطوبة، وحذر بقاء قطرات الأمطار في الجدر الخارجية".
يشرح لنا وهو يمسحها بأنامله "تلاحظون أن الجدر ملبسة بطريقة تشكل نتوءات منحنية، هذا من أثر التلبيس باستعمال عراجين التمر الجافة، التي تترك أثرها في الطبقة الخارجية، فتطرد تلك النتوء الدقيقة الماء باتجاه سواقي الرصيف".
طاقة شمسية
دونما عناء ستلحظ أن الشوارع، صارت أوسع جراء استعمال المركبات التي لم تكن متوفرة غداة إنشاء المدن القديمة، وإنك لتلمس أيضًا تطبيقًا عمليًا لفكرة التنظيم، فثمة كلمة جميلة تعلمك اقتصاد الماء مدونة في صهريج جماعي للماء الشروب تقول: "الماء أرخص موجود وأغلى مفقود"، وفي زاوية مشتركة حاويات لرمي القمامة مرتبة وفق طرق الفرز الحديثة، ما بين القمامة العضوية والبلاستيكية والنفاية العادية.
طبعًا ثمة عقدٌ يوقعه الساكن المستفيد، ينطوي على الالتزام بقواعد الحياة المشتركة، تلك التي تنتهي بصناعة عقد اجتماعي يشكّل المجتمع، مثل تنظيم أوقات إيداع القمامة والأماكن المخصّصة لها، ناهيك عن تفادي الضجيج وإزعاج الجيران، وقبلها ضرورة غراسة نخلة وشجرة مثمرة وأخرى برية، صيانة للمناخ المصغر المعروف بمسمى "الميكرو كليما"، اللازم للحياة في المناطق الصحراوية الجافة، فأغلب البيوت دافئة شتاء وباردة صيفًا.
يوضح نوح خصائص المدينة لـ "الترا جزائر" أن في المدينة محطتان لمعالجة المياه المستعملة التي يعاد استغلالها في سقي الحديقة التي أنجزت بتافيلالت، كما أن استعمال النفاية العضوية والنفاية المتخمرة، لإنتاج الطاقة الشمسية معمول به هنا، ونطمح إلى تطويره مستقبلًا للاكتفاء كليًا".
تسيير ذاتي
من العادات القديمة لبني ميزاب تربية ماعز في كل بيت سفلي، بينما يخصص السطح لطرح بقايا الطعام علفًا للدجاج الذي يعيده بيضًا، وللعنز الذي يدره جبنًا وحليبًا. ويبدو أن هذه العادة التي تحترم دورة الحياة، وقاعدة أنه لا يجب تضييع كلّ شيء هباءً بل يعاد إنتاجه بشكل مستمر، كانت وراء تطبيق فكرة الاسترجاع والتدوير، فمن بين 11 جمعية تضمن تسيير المدينة، واحدة مكلفة بالقمامة التي تجمعها البلدية، فيما تتوزّع باقي الجمعيات على شؤون متنوعة مثل الملعب والقاعة متعددة الرياضات والمكتبة والمتحف والثقافة.
وهكذا يتضح بأن تافيلالت التي أحيت اسما قديمًا، ونهجت تقنيات العمران العريقة وحافظت على روح تقاسم التسيير والتكافل والتنظيم الاجتماعي، قد أحيت بذلك نموذجًا ثقافيًا وعمرانيًا مستدامًا، كان وراء استمرار حضارة بني ميزاب في التاريخ لما يربو عن الألف العام.
لا تتوقف هذه المدينة صديقة الإنسان والبيئة والتاريخ والجغرافيا، عن حصد الجوائز والاعترافات الوطنية والعربية والدولية، كما لو أنها تقول "على هذه الأرض ما يستحق الحياة".
13 رسالة دكتوراه وجوائز عالمية
منذ تدشينها ما انفكت تافيلالت عن لفت انتباه الباحثين والخبراء، فهناك 13 مذكرة دكتوراه خصصت لها بينها ثمانية رسائل دكتوراه لباحثين أجانب، أما هيئة دراسة أوروبية تسمى "أفيتام"، فأفردت لها بحثًا متكونًا من 30 بابا يعنى بمختلف خصائصها الفريدة وعنونته بمسمى "المدينة البيئية المثالية".
وفيما أوفدت جامعة مونريال الكندية باحثين من أجل إعداد رسائل تخرج في الدكتوراه، أصدرت دار فلاماريون وهي واحدة من أكبر دور النشر الفرنسية والأوروبية مؤلفا يقع في 250 صفحة أعده خبراء ومختصون اختاروا له عنوانًا طاردًا لليأس باعثًا على الأمل "أشعل شمعتك".
لا يبدو أن شمعة هذه المدينة ستخبو في يوم من الأيام، لقد حصدت جوائز محلية ودولية مثل جائزة الجامعة العربية للبيئة بمراكش العام 2014، ثم الجائزة العالمية الأولى للمدينة المستدامة خلال مؤتمر مراكش الدولي حول الاحتباس الحراري "كوب 22" العام 2016، فجائزة الطاقة الدولية لسنة 2020، وأخيرًا، جائزة الطاقة الدولية الأولى "ڨلوبل إينرجي 2024"، المنعقدة قبل أيام بكوبنهاغن النرويجية، متقدمة على أكثر من 2000 مشروع منافس، أودعوا من ممثلي 180 دولة مشاركة.
أحمد نوح لـ "الترا جزائر": تافيلالت أحيت نموذجًا ثقافيًا وعمرانيًا مستدامًا كان وراء استمرار حضارة بني ميزاب في التاريخ لما يربو عن ألف عام
بغض النظر عن أوسمة الاعتراف الدولي بعبقرية تافيلالت الجديدة، يرى أحمد نوح بأن أفضل تكريم كان بكل تأكيد تخليد عبقرية الأجداد القدامى، ونقل تراثهم للأجيال الحاضرة والقادمة.
