30-يونيو-2023
رجل على شرفة منزلة بإحدى قرى تيزي وزو (الصورة:Getty)

رجل على شرفة منزلة بمنطقة القبائل (الصورة:Getty)

هناك حكمة تقول: "هناك شيء أسوأ من أن تهدِمَ بيتًا.. أن تتركه عُرضة للاهتِراء والتّآكل".

أقبلت جزائرية مغتربة في كندا، على  إعادة بناء وترميم بيت جدّها في منطقة باتنة شرق الجزائر، ورغم أن العملية ستكبدها الكثير من الجهد والوقت والمال أيضًا، غير أنها كانت تستمتع بتلك العملية، رغم أنها استغرقت منها مدّة ثلاث سنوات كاملة.

لا تراعي البيوت الإسمنتية الجديدة المنتشرة في الأرياف والمدن الجزائرية جانب الهوية والطابع العمراني الموحد أو خصوصية المكان وجماليته 

ستحافظ السيدة سمية. ب (65 سنة) على كل ما له علاقة بالذكريات "ذكريات طفولتنا هنا في هذا المكان، فلا يجب أن نطمسها أو نُغلفها ببعض الإسمنت والآجر باسم التجديد والعصرنة".

هنا، تقول سمية في حديث إلى "الترا جزائر"، إن الحظّ حالفها بأن ترى البيت كما كان في السابق ولكن مع القيام بتعديلات طفيفة، وترميم بعض أجزائه التي كادت أن تنهار، فميزة البيوت القديمة والريفية، أنها تهندس من القرميد و"المْرَاحْ" أو "وَسْطَ الدار" ولها أبواب من الخشب السميك وجدران من الحجارة الضخمة القوية التي لازالت لحدّ اليوم تعاند الزمن.

"الخوف من العودة ولا أجد أحدًا".. أو بالأحرى أن تجد المكان وقد سكنه آخرون، عبارات السيدة سمية وهي تقول لـ "الترا جزائر": " الحياة دون مكان يأوي إليه الإنسان لا معنى لها، حتى وإن وجدت قصرًا فالبيت الأول الذي تربيت فيه له قيمة أكبر من ذلك.

كلما تأتي للجزائر تُحاول أن تقضي أغلب أيامها بين جدران بيت جدها ووسط أهلها، تتحاشى في حديثها تفاصيل تخصّ البيت القديم، غير أنها عرّجت على ظاهرة باتت تعرفها العديد من المدن الجزائرية، وهي انتشار لافتات كُتب عليها "منزل للبيع"، خاصّة ما تعلق منها ببيع بيوت الأجداد، ووضع ذلك لتقسيم الإرث والتركة.

هذا يعني حسبها أن مالك البيت الجديد لن يرحم هشاشة المنزل وتهالكه ولا يُلقي بالًا لذكرياته، ولن يتعلّق بجزئياته وتفاصيل سنوات ماضية، بل أغلب من يشتري البيوت القدمية يقبلون على تهديمها، لإعادة بناء منزل آخر بنمط عصري من أجل السكن أو تحويله إلى متجر كبير أو مجموعة من المكاتبة وتنفيذ مشاريع تدر عليهم المال الكثير.

عكفت هذه السيدة على ترميم البيت ومحاولة وضع لمسات جديدة بغية الاستمتاع بجماله، فهو يقع في قرية بأعالي جبال الأوراس، يمتاز بعدة مزايا أهمّها أنه يطلّ على سلسلة جبلية ترد الروح وتعيد التاريخ إلى نقطة البدء، فضلًا عمّا يحيط بالمكان من طبيعة خلابة وهواء نقي، فهو منزل يكفي بقاءه على حالته فما بالك إن تم ترميمه بشكلِ صحيح، علاوة على توفير مختلف ضرورات الحياة اليومية التي تسمح بالعيش فيه، معتبرة ذلك "أجمل وأفضل ما تركه الأوّلون، ثم ستتركه لغيرها من الأحفاد".

الاهتمام بالبيوت القديمة مفقود في الكثير من الأحياء والمناطق، إذ انتشرت ظاهرة في مختلف المدن تتلخص في لافتة متكونة من كلمتين: "منزل للبيع" إذ أن أغلب البيوت القديمة سواءً الموروثة عن العائلات لما بعد استقلال الجزائر، أو بيوت العائلة الكبيرة، تعرض اليوم للبيع وهذا باتفاق أهل الورثة الحقيقيين، في محاولة حثيثة منهم لأجل تقسيم المبلغ المتحصل عليه جراء عملية البيع.

تشير بعض التصريحات لـ" الترا جزائر" أن قضايا الميراث ساهمت في تحويل البيوت القديمة رغم ما تحمله من رمزية تاريخية وإنسانية واجتماعية نحو حلّ يراه البعض جذريًا، وهو البيع وبعدها التهديم من قِبل الملاك الجدد.

إلى هنا، غالبية البنايات القديمة أُنشئت من أساسات بالحجارة القوية وأسقف القرميد والجدران المبنية بالحجارة السميكة أيضًا، ما يجعل أول شيء يقبِل عليه الساكن الجديد، إذ ينزع السقف والجدران ليحوّلها إلى أرض خاوية، ثم يعيد بناءها وتشييد هيكل سكني بعدة طوابق مع تضمينها بطابق أرضي تتوزع فيه المحلات التجارية.

حتى البيوت الإسمنتية الجديدة المنتشرة في الأرياف والمدن الجزائرية، ليس لها طابع أو هوية معينة، فهي لا تراعي خصوصية المكان ولا جماليته ولا نمطًا عمرانيًا موحّدًا، فأغلب البيوت عبارة عن هياكل إسمنتية مربعة الشكل، تُستغل فيها الأرض إلى أقصى حدّ ممكن، فالطابق الأرضي يخصص يحوّل إلى محلّات تجارية حتى وإن تركت مهجورة مدى عمر البناء دون تخصيص حديقة خلفية أو مساحة فيها تهوية، أما طوابق البيت العديدة، فتستغل لبناء أكبر عدد من الغرف، دون مراعاة الإضاءات ولا فضاءات مفتوحة

في هذا الإطار، يتحدث السيد عماد بوعروج (67 سنة) لـ "الترا جزائر"، بأن بيت العائلة الكبيرة يُسيل لعاب الورثة، لأنه يدر عليهم دخلًا كبيرًا خاصّة إن كان يقع في مكان استراتيجي خاصة في قلب المدن، ما يجعله محط اهتمام وأنظار الكثيرين، موضحًا بأنه يبعث على تهافت من يريدون تهيئته ليكون موقعًا تجاريًا، أو عمارة من عدة طوابق وسكنات.

إهمال

ليس البيع من أجل المال فقط، فالكثيرون يرون في أن بيت الأجداد كثيرًا ما يتعرّض للإهمال بسبب عدم وجود ساكنيه، فيضطر البعض إلى بيعه، وعدم تركه متهالكًا دون فائدة، وهو الأمر الذي تحدّثت عنه زهية كركود وهي أم لستة أولاد تتحدث عن بيت عائلتها وكأنه فلذة كبدها تقول "الترا - جزائر"، بأنها لم تكن تملك المال الكافي لشراء بينت جدّها، في النهاية كان الأولى أن يشتريه أحد الأخوة ليبقى في محيط العائلة وليس بيعه للغرباء، حدّ تعبيرها.

يتحدّث البعض عن أن بعض البيوت تتسبب في تقسيم أفراد العائلة، فليس الجميع يرضى بالإبقاء عليها كما أو القيام بخطوة لترميمها والاعتناء بها من جديد، لذا تظلّ"معلقة بين الورثة"، أو الدخول في المعارك القانونية، التي لا يمكن معرفة نهايتها كيف ستكون.

يشير الباحث في علم الاجتماع، خالد لونيس بأن البيوت القديمة بكل ما تحمله من نمط عمراني، تتوفّر على الكثير من المزايا التي لا نجدها في سكنات اليوم الحديثة، حتى مع ما توفره من تطور وعصرنة وطرق البناء وتزيين الفضاءات السكنية، معتبرًا أنها تشكل تراثًا تاريخيًا للأسرة في حد ذاتها سواءً على الصعيد المعماري أو المستوى الاجتماعي، يمكن استغلاله جيدًا بالترميم والعناية والمحافظة على ما تركه السابقون.

حياة جديدة

كما الإنسان الذي يموت، تموت البيوت أيضًا بهجران سكانها، حقيقة مريرة، فالكثير من العائلات في عدة ولايات جزائرية أقبلت على بيع سكنات الأجداد، بسبب تعقيد المسائل القانونية وأهمية قطع الطريق أمام الصراعات، فبيع الميراث المادي وتقسيمه على أصحابه، أفضل بكثير من الإبقاء عليه كما هو أو تعريضه للانهيار وفي شكل "أطلال".

أغلب المنازل القديمة تم تحويلها إلى فضاءات للتجارة وإلغاء كل ما له علاقة بالإنسان الذي عاش فيها من قبل، إذ اعتبر كثيرون أن ترميم البيوت القديمة هو عملية جمالية بينما وصفه آخرون بأنه خطوة لـ "بعث حياة جديدة".

أغلب المنازل القديمة تم تحويلها إلى فضاءات للتجارة وإلغاء كل ما له علاقة بالإنسان الذي عاش فيها من قبل

بعيدًا عن الأسباب الكامنة وراء ذلك، فإن عديد الأحياء تغير وجهها وتحولت ملامحها، واختلفت مشاهدها من "حميمية العلاقات الإنسانية إلى حياة بلا روح"، إذ فقدت هويتها بسبب بناءات الإسمنت والآجر، والتخّلي عن جمال العمران القديم الذي يحمل بين جدرانه الكثير من الدفء.