13-نوفمبر-2019

الثلوج تعزل عدّة قرى جزائرية في الشتاء (فيسبوك/ الترا جزائر)

للبرد في العُرف المجتمعي، فلسفة ومعاني وتخيّلات مختلفة، رغم سوداوية المناظر والكوارث التي تلاحقنا كلّما سقطت الأمطار والثلوج في الجزائر، إذ يمثّل الصقيع الذي تتجمّد بسببه الأطراف وتصطك الأسنان، وتألف برفقته الروح رحلتها في البحث عن الدفء على "كانون" الحطب، برد جبال الأوراس الذي خبرتُه من جبال شهدت منعرجاتها مختلف أنواع المقاومة، ضدّ البرد والصقيع والطبيعة المتقلّبة بعدد فصولها الأربعة، وضدّ الاستعمار إبّان الثورة التحريرية.

تستبشرُ الأرواح بقدوم الثلج، وتفرح القلوب طربًا به، وتسعد لاستقبال الغيث. كان ذلك أيّام كانت المطرية تُحمل من طرف الأكابر في المدن فقط، بينما يحتمي سكان الجبال بـ"شاشية" صنعتها أنامل الأمهات من الصوف

داخل بيوت القرميد، وفي دار الأجداد –تربّينا-، هكذا يعود قطار الماضي بذكريات الكثيرين في ليالي باردة كليالي نوفمبر، في تجمّع سكني من بيوت قديمة مبنية بالحجارة والطين، يُسمع بين جنباتها صفير الرياح القوية، وزخّات مطر تتسلّل بين شقوق الأبواب الخشبية التي لا مفتاح لها، سوى قطعة خشبية تُسدّ بها الفجوات مخافة أن يتسرّب من خلالها البرد.

اقرأ/ي أيضًا: الثلوج والأمطار تعزل عدّة ولايات والجيش يتدخّل

في تلك المدينة الصغيرةّ، أمْلو، ومعناها من الأمازيغية مدينة الظلال والغلال، أو ميلاف التي اشتق اسمها الروماني من كثرة المياه، فهي المتاخمة لجبل مارشو الذي يتنزّل طيلة الوقت بمياهه العذبة، إنها مدينة الألف منبع ومنبع، أو ميلة مدينة الصحابي الجليل أبو المهاجر دينار أو ملاح، مدينة الجمال والثّلج، تجاورها جبال وادي العثمانية وجبال فج مزالة أو"فرجيوة" حاليًا، التي دفعت الكثير من الشهداء والتضحيات، يعرف السّكان هناك للتأقلم مع الطبيعة ألف معنىً ومعنىً، بل يتباهون بحلول فصل الشتاء لأنّه علامة على القوّة والقدرة على التحمّل، في زمن صارت للمدفأة الكهربائية عزّة وشأنًا وللسخّان الغازي مكانة عالمية.

هناك في المناطق التي تُحاصرها الثلوج، للبرد عنوان آخر؛ إذ تستقبله العائلات بفرحة كبيرة، بل بأهازيج الطّابونة أو الموقد المتّصل بقارورة غاز البوتان، التي بدورها تعلن تضامنها مع الولدان بقطع الكسرة الساخنة، أو حبات "التريدة تاع الطاجين" (المعارك) بلهجة بعض مناطق الوطن أي (رغيف يُصنع من الدقيق والزيت) تطهى على طاجين من الفخّار، إنها أكلة شعبية غالبًا ما تؤكل مع كأس حليب ساخن، لا يُنافسها في الشتاء سوى أطباق شعبية تسخّن الدورة الدموية، وتعطي للجسم الدفء اللازم لاستمرار مقاومته للسعات البرد، طوال فترة الشتاء.

الثلج في العرف الريفي يؤذن بـ"عام الوفرة"، إذ يُردّد كبار هذه المناطق جملة شهيرة: "يُعرف الشتاء من خريف العام ومن أوّل زخات الثلج"، بينما تُعِدّ له ربّات البيوت الكثير من مواد غذائية لاستقبال فصل الخيرات أو ما يُسمى شعبيًا بـ" العولة" التي تُعتبر "خزينة عائلية من الطعام تحسبًا لفصل الشتاء" .

للثلج فلسفة خاصّة لدى سكان مناطق الأوراس مثلًا، وتتشابه كثيرًا لدى عديد القرى والمدن الداخلية في الجزائر، يحنّ فيها الصغير قبل الكبير للباس القشابية المصنوعة من وبر الغنم، وتستطعم العائلات أكلات تقليدية أهمّها العصيدة التي تطهى بدقيق القمح وتخلط بالماء وزيت الزيتون وتقدّم في طبق العشاء، أو طبق الجاري بالفول، وهو عبارة عن عجائن يتم تقطيعها قطعًا حادّة وتطهى في مرق الفول اليابس، لا يمكن لأي كان أن يستغني عنها في الشتاء.

يعدّ الثلج ضيفًا عزيزًا وغاليًا لدى سكان هذه المناطق الجبلية والأرياف، تستبشر به الأمهّات اللواتي يحرصن على شجيرات الزيتون، ويزهو به الأطفال في فعل اجتماعي أعدّت له ربات البيوت الزاد، ووضعنه في"البيتة"، كما تسمّى في بعض المناطق، التي تخصّص لتخزين مختلف المواد الغذائية، التي أعدتّها النساء بصناعة يدوية، خاصّة الكسكسي والشخشوخة والتريدة والبركوكس والفلفل الممنقوع في الخل، والزيتون أيضًا، علاوة على مختلف البقول الجافة وزيت الزيتون، مئونة للشتاء.

تستبشرُ الأرواح بقدوم الثلج، وتفرح القلوب طربًا به، وتسعد لاستقبال الغيث. كان ذلك أيّام كانت المطرية تُحمل من طرف الأكابر في المدن فقط، بينما يحتمي سكان الجبال بـ"شاشية" صنعتها أنامل الأمهات من الصوف، وقشابية ظلّت أنامل الجدّات تحيكها لأشهر معدودات، غير أن هذه المشاهد بدأت تتراجع تدريجيًا أمام "لعبة" وسائل التواصل الاجتماعي التي لخّصت لنا اليوم، أنّ الثلوج كارثة الكوارث، وتعزل القرى والمداشر في غياب تامٍ للعدّة اللازمة لمواجهتها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بعد الثلوج.. الجزائر تغرق!

الجزائريون والأمطار.. نحبّك ونكرهك