عندما تحدّث وزير التعليم العالي والبحث العلمي شمس الدين شيتور عن مستوى أساتذة الجامعات، أفرز جدلًا كبيرًا، في وسط يضمّ الآلاف ممن هُضِمت حقوقهم، حيث اتهمهم بالتقصير وطالبهم من موقعه الإداراي والسياسي بأداء واجباتهم.
تضم المجمّعات العلمية والأكاديمية في الجزائر، باحثين ودكاترة مختصّين، ولكنها لا تصنع المنتج الصالح للاستهلاك
جامعات صار فيها الأستاذ بعيدًا كل البعد عن الواقع، باعتراف كثيرين، "ليس لأن الأستاذ أراد ذلك، بل لأنّ الجامعة صارت مخرجاتها باردة من حيث التحفيز لإثراء البحث العلمي، من حيث توفّر مخابر علمية تضمّ عشرات الباحثين في سلك الدكتوراه، وقاتلة للشّغف من حيث توظيف المجهودات العلمية لحلحلة المشاكل اليومية التي يعرفها المجتمع، واستثمار مخرجاتها لأجل الصالح العام".
اقرأ/ي أيضًا: الأكاديمي ناصر جابي في بيان استقالته: الجامعة الجزائرية في خطر!
إرادة سياسية
بعيدًا عن التصريحات و ارتداداتها على المنظومة الجامعية، تضم المجمّعات العلمية والأكاديمية في الجزائر، باحثين ودكاترة مختصّين، ولكنها لا تصنع المنتج الصالح للاستهلاك في حلّ معضلة اقتصادية مثلًا، أو ابتكارات تُضاعف الهياكل الصناعية أو العلاجات واللقاحات، رغم وجود المجهودات الفردية، تقول الأستاذة فضيلة منداس، الحاصلة على درجة بروفيسور من جامعة التكنولوجيا بباب الزوّار بالعاصمة الجزائرية، قبل أن تهاجر قبل ستّ سنوات نحو كندا.
"يكفي أن تدخل الجامعة، وتبحث عن المكان أو الفضاء الذي توضع فيه الأطروحات ومذكّرات التخرّج لآلاف الطلبة والباحثين، لتفهم سيدي الوزير أيّ مسار توجّهت له الجامعة الجزائرية؟" تقول السيدة منداس في حديث إلى "الترا جزائر"، معلنة أن المستوى الذي وصلت اليه الجامعة ليس وليد اللحظة الحالية، ولا حتى السنوات الأخيرة، بل مداره متصل بـ "القيمة التي رتّبت فيها الحكومة الجزائرية، درجات الأستاذ الجامعي والباحث بشهادات عليا تفوق الدكتوراه أو الباحثين من سلك الدكتوراه"، متسائلة "هل يعقل أن يوضع الجميع في سلّة واحدة؟ وهل يمكن أن نحاسب الجميع عن المستوى دون الرّجوع إلى الظّروف التي كبّلت فيها المخرجات السياسية التفكير، وجعلت من الأستاذة الكثيرون منهم ليس جميعهم يلهثون في رحلة يومية للبحث عن سكن، يحفظ كرامتهم، بعد عناء سنوات الكراء؟"
لا تُعارض الأستاذة منداس حقيقة وجود سلبيات في الجامعة، جعلتها لا تستطيع منافسة كبريات الجامعات العالمية، معترفة بالعديد من المآخذ على الجامعيين أنفسهم، مردفة بالقول:" لا يمكن تغطية الشمس بالغربال" ، لكن "عند القيام بتشريح وضع يجب أن نضع الأسباب مجتمعة"، إن كان الأمر يهمّ الدولة كمنظومة تسعى لإصلاح الوضع والمآل أمام أعيننا لنحاول إصلاح وضعية وليدة تراكمات السنوات ناهيك عن فترة الإرهاب التي أجهضت الآلاف من الأحلام، وما ترتب عنها من "قهر اجتماعي وعلمي واختلاف القيم" كما قالت.
يتحدّث البعض في الجامعة، أن القرارات العليا دائمًا تذهب في منحى "تحسين الوضع الجامعي"، كما قال الدكتور سعيد لعلاونة، من كلية العلوم الاقتصادية بالعاصمة، عن طريق قرارات الواجهة فقط ومخرجات بالأرقام من بناءات وتجهيزات وتعداد الطلبة فقط، والميزانية المقدّمة كل سنة، مستطردًا: "في النهاية نحن نبحث عن النتائج والمخرجات التي تساعد من الرفع من قيمة الجامعة، مقارنة بالجامعات العالمية وضرورتها في الرفع من القيمة الاقتصادية للبلاد"، وهذا هو الأهم حسبه.
حديث الباحثين في سلك الدكتوراه من مختلف التخصّصات لـ "الترا جزائر"، وخاصّة الجيل الجديد منهم، يوحي أنهم يعيشون في حالة "تيه علمي"، خصوصًا في التخصّصات الاجتماعية والإنسانية، التي باتت اليوم غالبًا ما تتجه نحو الحول على الكم وليس الكيف أو النّوع أو المضمون، إذ تُجبِر سنوات البحث الثلاث مع عامين تمديد لمناقشة أطروحة الدكتوراه، الطلبة على تحصيل نقاط تؤهّلهم للمناقشة تبعًا لشروط نظام "أل أم دي"، وهي معضلة رحلتها ليست بالهينة على الآلاف، ممن تشبثوا بحلم مواصلة الدراسات العليا.
شغف وتضحية
في سن الـ 59 لم تلتفت الأستاذة في علم الاجتماع السلوكي وهيبة نواصرية، لمختلف الانتقادات الموجّهة لها من طرف لجنة التحكيم التي ناقشت فكرتها المقدّمة لإعداد مشروع الدكتوراه، كان ذلك في أحد الملتقيات الدولية التي شاركت فيها الأستاذة نواصرية لأوّل مرة، وهي سنة أولى دكتوراه بجامعة بوزريعة بالجزائر العاصمة، إذ كانت تنتظر تلك الانتقادات بـ "شغف كبير"، و"انتباه منقطع النظير"، كما قالت في حديث إلى "الترا جزائر"، كما سجّلت مختلف الملاحظات في دفتر صغير، فضلًا عن استعمالها للتسجيل في هاتفها الجوال، فالبحث العلمي حسبها قطعة من العذاب ولكنه طريق للنور، على حدّ تعبيرها.
في الجزائر، أن تدخل الجامعة في مسارات علمية متواصلة، لنيل الشهادات العليا إلى غاية الدكتوراه، معناه أن تتعلّم منهجية البحث العلمي، وتطبق مختلف النقاط اللازمة لذلك، فهي أصعب خطوات الحصول على شهادة الدكتوراه لإعداد الأطروحة، غير أنها معضلة كبيرة في سنوات الطلبة الجدد، وخصوصًا المتخرجين من نظام "أل أم دي" أو أولئك الذين خرجوا من الجامعة ورجعوا إليها، بينما بالنسبة للطلبة الجدد الذين تأخروا في سنوات التحصيل العلمي لأسباب متعددة فالأمر مختلف جدا، رغم صعوبته إلا أنه يمل الكثير من المعاني والحقائق والأحلام المحققة على أرض الواقع.
هي أنموذجًا، من بين العشرات من النماذج، فالسيدة نواصرية تشارف على سن الستين، غير أن حبّها للتعلم، جعلها تقدم لنيل شهادة الباكالوريا قبل 16 سنة لخمس مرّات، تاركة وراءها كل شيء "ياجات ياراحت" كما قالت، موضّحة أنها قطعت شوطًا كبيرًا في العمل الإداري في إطار شبكة التشغيل، لكنها "في كلّ مرة تُقوّي قدرتها بطرح الأسئلة على أساتذة سبقوها في العلم والدرجات والبحث" كما قالت.
التخصّص جعل منها تجمع بين النظري والميداني، غير أن شغفها الكبير ينحسر في الميدان في مقابلة الحالات في الشارع وفي المصحات، إذ ترى " أهمية البحث الأكاديمي أن ينتقل بين الجامعة والعالم الواقعي، في رحلة الذهاب والإياب، معبرة عن ذلك بالقول:" الكتب تزودنا الأفكار والأسس المعتمدة وتمنع عنا الانزلاق نحو الانطباعات، بينما الميدان يعطينا الحقائق التي يمكن بفضلها أن نُطوّع الموجود من النظريات، ونعيد لها بريقها أو نضيف إليها من خلال الملاحظة بالمشاركة أو المقابلات أو حتى المعايشة اليومية للحالات المدروسة".
رحلة البحث
لعلّ الشيء الملفت للانتباه، أنّ كثيرًا من طلبة الجامعات وخصوصًا من الباحثين في طور الدكتوراه، يعيشون بين البينين، يسيرون في رحلة الذّهاب والإياب، أحيانًا ليست بالسّهلة بالنسبة لمحمد الأمين صفوان، الباحث في علم الاجتماع السياسي، الذي اقتنع أن البحث العلمي يوجد "خارج الأطر الجامعية وجدران المخابر"، بل هو في كثير من التخصّصات، المرتبطة بالفرد والمجموعة كالأسرة والمجتمع والبيئة، متعلّق بـ"الميدان واللقاءات المباشرة مع الناس، فهناك توجد التفاصيل وتوجد الفراغات التي يتيه فيها العلم، ويقف أمامها يطرح التساؤلات، لا يمكن لأيّة نظرية أن تجيب عنها بل تمنح الباحث حدود السير فقط تسمى "أدوات بحثية"، موضحًا البحث الميداني يجعل من الباحث يتشبث بالموجود والمسموع والمعاش كلما دخل "مظاهرة، مسيرات، مستشفى أو مصحة لعلاج الأمراض النفسية"، كأمثلة عن الواقع.
في سياق متصّل، تطرّق كثيرون من العارفين بخبايا البحث العلمي، إلى أهميّة متابعة الباحثين من كوادر مقتدرة، إذ دعا نائب رئيس الشبكة العربية للإعلام والاتصال، العربي بوعمامة، في حديثإلى "الترا جزائر"، إلى أهميّة تطوير أساليب التأطير البحثي لطلبة الدكتوراه، باعتبارهم مستقبل البحث العلمي في الجامعة، وخزّان التكوين الجامعي أيضًا، مشددًا على ضرورة استثمار الخبرات والتجارب البحثية الموجودة في مختلف الجامعات الجزائرية والدولية، لدعم المخرجات الفكرية والعلمية في الجزائر، وربطها دومًا بالبيئة التي نعيش فيها وهي متغيرة بسرعة، حسب طرحه.
تطرّق كثيرون من العارفين بخبايا البحث العلمي إلى أهميّة متابعة الباحثين والأكاديميين
إن مثل هذه الأوجه وغيرها، من بعض فيض الواقع البحثي داخل أسوار الجامعات الجزائرية، إذ يقطع العشرات من الطلبة الباحثين في سلك الدكتوراه، المسافات الطويلة داخل الجزائر وخارجها، من أجل المشاركة في ملتقيات وطنية ودولية، وتظاهرات علمية في "منهجية البحث العلمي"، لرفع رصيدهم المعرفي والمنهجي، في البحث والتقدّم فيه، من جهة، وبهدف مناقشة نقاط الظّل في بحوثهم من جهة أخرى بغية طرح استفساراتهم على مختصّين وباحثين كبار.
اقرأ/ي أيضًا:
النقاط السوداء في الجامعة الجزائرية
مسابقات التوظيف في الجامعة الجزائرية.. جدل حول نظامي الـ "أل.أم.دي" والكلاسيكي