ينحدر الجزائريون من ثقافة زراعية، كانت تجعل لإله المطر المسمّى "أنزار" قرابينَ وطقوسًا، حتى تحظى الأرض برضاه، بقيت منها تجلّيات في الثقافة الشعبية اليوم، منها طقس "الوزيعة"، الذي يقام كلما شحّت السّماء.
ينحدر الجزائريون من ثقافة زراعية، كانت تجعل لإله المطر المسمّى "أنزار" قرابينَ وطقوسًا، حتى تحظى الأرض برضاه
تنطلق ثلة من أعيان القرية في الطواف على البيوت، لجمع المال، كلٌّ بحسب قدرته، ثم يقصدون السوق لشراء رؤوس من الثيران أو النعاج أو الماعز، ويجتمع الكبار والصّغار والنساء والرجال والمقيمون في القرية والمهاجرون منها، في ساحتها، ليشهدوا عمليات الذبح والسلخ والتقطيع، ثم توزيع اللحم في شكل حوزات صغيرة بما يُوافق عدد الأسر، وتبيت القرية كلها مستمتعة باللحم ليلتها.
ترافق العمليةَ زغاريدُ النساء وأدعيةُ الشيوخ وأناشيدُ الصبيان، وربما بكاؤهم، إذ هناك مناطقُ تحمل صغارَها على البكاء، كنوع من استجلاب عطف الله على عباده المحتاجين إلى الغيث.
اقرأ/ي أيضًا: هل ستصمد المدن الكبرى في مصر في وجه الفيضانات؟
إذا حدث أن جادت السّماء بما يكفي لأن يجعل الأرض قابلةً لأن تُحرث، سارعت المسنّات إلى استخراج كمّياتٍ من القمح وشيّه على النار، ثم طحنه وإضافة السمن البلدي والعسل إليه، فيصبح "روينة" تُوزّع على الجميع، صبيحة الشروع في عملية الحرث.
في الآونة الأخيرة، بدأت هذه الطقوس تدفن مع الجيل القديم، لتعوّضها في الظهور والحضور، عبر وسائل الإعلام المختلفة، تبرّمات الناس وشكاويهم من "اعتداءات" الأمطار عليهم، في عقر ديارهم وشوارعهم وتجمعاتهم السكنية، مثلما يحدث هذه الأيام، إذ لا تخلو فضائية من الفضائيات، من مشاهد الأوحال التي تكاد تشارك الجزائريين وجبات طعامهم.
ظهر استياء المتضررين أكثرَ عريًا، في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وسخر كثيرون من تزامن دعوة "وزارة الشؤون الدينية والأوقاف" إلى صلاة الاستسقاء، مع هجمة الأمطار بكميات قياسية في بعض المناطق المعروفة بذلك. وتساءل أحدهم: "أتفهم أن تضرَّ الأمطار بالمناطق الهشّة في القرى والتجمّعات البعيدة، لكنني لا أتفهم أن تغرق المدن الكبيرة مثل وهران والجزائر العاصمة".
وذهب آخرون بعيدًا في السخرية، حين طلبوا من المواقع الإلكترونية المتخصصة في بيع لوازم البحر، أن تمدّهم بأسعار المراكب البحرية، حتى يستعينوا بها على الخروج من بيوتهم إلى أشغالهم المختلفة، ذلك أن الجهة الشرقية للعاصمة تحوّلت إلى بحيرة كبيرة تكاد تغرق فيها حتى السيارات.
أكثر المشاهد إثارة للاستياء والسخرية، استعصاء التحاق التلاميذ والطلبة الجزائريين بمقاعد الدراسة، بسبب تجمع المياه أمام الأبواب
أكثر المشاهد إثارة للاستياء والسخرية، كانت استعصاء التحاق التلاميذ والطلبة الجامعيين، في بعض النواحي، بمقاعد الدراسة، بسبب تجمّع المياه أمام الأبواب الرئيسية. يقول الطالب أمين قاسمي: "لماذا يقدّمون لنا الجامعة على أنها أرقى ما وصلت إليه المدنية المعاصرة، لكنهم في المقابل يسمحون بحصول مثل هذه المشاهد؟ ألا يُفترض أن الجامعة تشّع على محيطها، فكيف يتركونها تغرق في الأوحال؟". ويشهد: "في الموسم الماضي، كنا نحن طلبة جامعة هواري بومدين للعلوم والتكنولوجيا، نستعمل الكراسي لنتفادى البركة الجاثمة عند المدخل، ولم أستوعب كيف لجامعة تدرّس التكنولوجيا، لم تستطع أن تحمي نفسها من الأمطار، فكيف يُطلب منها أن تزوّد المجتمع بالعلوم التي تحميه؟".
اقرأ/ي أيضًا: عمان.. الغرق ليس قدرًا
وحدهم رجال الحماية المدنية سلموا من سخط المواطنين، ذلك أنهم كانوا حاضرين بقوة على مدار الساعات التي احتاجهم فيها المتضرّرون، خاصة الذين يسكنون في الطوابق السفلية للعمارات.
يقول العون عبد الرؤوف دادي لـ"ألترا صوت" إن جهاز الحماية المدنية بات يتوفر على إمكانيات مادية وبشرية كفيلة بجعله يلعب دوره في مثل هذه الكوارث. "على المواطن الذي يلوم البلدية على أنها لم تصلح البالوعات، أن ينتبه إلى أنه كان في الصيف يرمي فيها الأشياء التي تعطلها، وعلى البلدية في المقابل أن تبادر إلى إصلاح البالوعات مع انتهاء موسم الصيف، حتى يتمّ تجنب هذه الأتعاب كلها".
يتجاوز السخط في جنوب البلاد، دخول المياه إلى بعض البيوت والمحال، وتراكم الأوحال في الطرقات، إلى تهديد واحات النخيل وقطعان الإبل والماشية، ذلك أن الأمطار لا تهطل في تلك المناطق إلا مرات نادرة، لكنها إذا فعلت تتسبّب في كوارث وأعطاب مدمّرة. ويتساءل السكّان: "خارطة الوديان معلومة لدى الحكومة، ومواسم الهطول معلومة لدى الأرصاد الجوية، فلماذا لا يتمّ وضع الحواجز الإسمنتية اللازمة التي تحمي المدن من الطوفان؟".
اقرأ/ي أيضًا: