17-مايو-2024
(الصورة: فيسبوك)

عندما ظهر شعار الحركة الانفصالية المحظورة في الجزائر "ماك" على أحد جدران الحي الشعبي باب الوادي بالعاصمة الجزائرية في أحد مشاهد المسلسل الجزائري "الدامة"، الذي بثّه التلفزيون الجزائري الرسمي خلال شهر رمضان الفائِت، أثار الكثير من الجدل، لكنه في الآن نفسه أكّد أن الكتابة على الجدران كثيرًا ما تعتبر سجلاًّ سياسيًا واجتماعيًا وتاريخيًا وعاطفيًا أيضًا، وتدعو إلى طرح سؤال يتعلق بمدى مواكبتها للأحداث الراهنة، فهل يمكن أن تشكّل بدورها فضاءً لفهم المجتمع؟

أستاذ الاجتماع السياسي عبد الله شليغم لـ "الترا جزائر": كل كتابة أو رسم هو أحد الشواهد الميدانية التي تمثل فئة الشباب الذي يشعر بالتهميش والإقصاء

ممارسة إنسانية

كل محاولة للرسم والتدوين المبهمة منها والمعلنة، تخفي الكثير من المعاني، لكنها في نظر البعض تفتح الباب أمام التفسير والتأويل، فما وراء الكتابات الحائطية أو الكتابة في الجدران أو الرسومات الحائطية أو كما يسميها البعض بـ"الممارسة الحائطية الإنسانية"، إرث اجتماعي ومفهوم شامل لوضعية اجتماعية ما وتوفر للأفراد من مساحة للتعبير.

مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، أصبحت فضاءات التعبير عن الرأي والأفكار وإثارة النقاشات متاحة للجميع وليست حكرًا على الصالونات السياسية ومنابر الفضائيات، ولكن مع هرولة السلطات لتقنين النشر على هذه الفضاءات، والملاحقات القضائية للمدونين والنشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، ما زالت الكتابات الحائطية هي الأكثر أمانًا والمساحات الأكثر حرية للتعبير، رغم تأثيرها على جمالية المحيط، حسب كثيرين.

مولودية

قد يعتبر البعض هذه الكتابات الحائطية تؤرّخ لحدث سياسي أو حدث أثار الجدل أو فرصة للتعبير عن واقع يهم شريحة واسعة من الناس، أو تعبير عن فكرة عاطفية أو فضفضة حول أمل تحقيق حُلم طال انتظاره مثل السكن والشغل والهجرة، أو الاعتراف بانصهار في فكرة ما مثل شعارات الأحزاب السياسية، أو عبارة ومورز وإمضاءات خاصة بنوادي كرة القدم، لكنها في الأخير تبقى الكتابة في الجدران وحتى في ممرات الأرصفة، لغة بسيطة مفهومة أو غامضة أحيانًا وتطرح تساؤلات في الكثير من المناسبات.

لغة صامتة

خارج البساط الأخضر، ووراء أسوار الملاعب، تتغير ألوان الجدران في الجزائر بسبب كرة القدم، بل صارت المدن الجزائرية وخاصة عاصمة البلاد مقسمة إلى مناطق ومرابض بحسب النادي الذي يأسر قلوب سكانها، بل في الحي الواحد نجد فريقين أو ثلاثة لكن بألوان ورسومات وشعارات تتحدث لوحدها عن " هوس" اسمه الكرة.

كثيرون يفصحون عن تعلقهم الشديد بنادي كروي في منافسة رياضية لكنها تتحول إلى منافسة بين الكتابات في الجدران والرسومات في مساحات في الأحياء الشعبية مثلما نشاهده اليوم في الأحياء التي تحتضن كبرى النوادي العاصمية: مولودية الجزائر واتحاد الجزائر بحي (باب الوادي)، شباب بلوزداد بحي بلكور الشعبي، واتحاد الحراش بمنطقة الحراش وغيرها من النوادي التي تحولت من البساط الأخضر إلى الجدران.

كلمة واحدة تعبر عن شعور للآلاف من المناصرين، كما يقول وليد بلحي وهو مناصر نادي شباب قسنطينة، إنه كتب قبل أيام كلمة "حقرونا" أي " ظلمونا" في عديد الأماكن بقلب العاصمة الجزائرية، باللونين الأحمر والأسود، وهما لونا النادي العاصمي، فضلًا عن المعنى الذي يحيل إلى عدة مسائل متعلقة بالفريق الذي خسر الوصول إلى نهائي كأس الجزائر بسبب "ضربة جزاء" كـ "حق النادي القسنطيني العريق المهضوم"، بل يرفض البعض الإذعان لهذه الفكرة أساسًا، غير أن " حقرونا" هي: "تعبير عن غضبه وتعاطفه مع نادي القلب".

وأوضح لـ" الترا جزائر" بأنه يهتم بالكتابة الحائطية بخصوص النادي والكرة عمومًا، ولكنها في المقابل أحيانًا ما تحمل شيئًا من الغيرة على عدم فوز النادي أو نوع من الحقد تجاه النوادي الأخرى، وذلك في كل منافسة كروية تتزامن معها الكتابات الحائطية بالتدوين أو الرسم وكل مناسبة وتطوراتها القائمة. 

مادة آنية

مهما اختلفت أمكنتها وأشكالها وصيغتها، فالكتابة على الجدران أخذت من الأحداث اليومية مادتها البسيطة والعميقة في الآن نفسه، لهذا باتت كتابة شعار سياسي أو تعليق على زيادة في الأسعار، أو مناصرة نادي رياضي تدخل في خانة الإقرار بالاقتناع بـ" فكرة سياسية"، ولكنها مجهولة الهوية وبلا عنوان ولا خلفية.

توثق بعض الكتابات على الجدران فترة من فترات الحراك الشعبي الذي عاشته الجزائر خلال أكثر من عام، تحمل بين المفاهيم والمعاني السياسية تارة والاجتماعية تارة أخرى، فباتت اليوم مجالاً يثير اهتمام البعض، فيما تخلى آخرون عنه لأسباب اجتماعية وانغماسهم في توفير ظروف أفضل في العيش.

دخل الشعار السياسي والتاريخي الذي يلّخص لمرحلة طويلة عاشتها الجزائر طيلة قرن وأزيد من ثلاثة عقود من الزمن، قاموس التاريخ الوطني " تحيا الجزائر" أو " فيفا لالجيري" و "وان تو ثري فيفا لالجيري"، وهو الشّعار العام أو الشعار الواسع من حيث الفهم ومن حيث الخلفية، فهو يعيدنا إلى أول يوم استقلال الجزائر في سنة 1962، كما ينطبق أيضا على الاحتفالات التي تنظم كل سنة في علاقة بتاريخ الثورة التحريرية وتاريخ عيد الاستقلال، كما أنه بات شعارًا استلهمت منه جماهير كرة القدم هتافاتها في الملاعب.

في هذا الصدد، تعود بنا الكتابات الجدارية إلى أحداث قديمة من حيث الزمن وترتبط بفترات عاشتها الجزائر، أو استجابة لبعض أهواء وطموحات الشباب والتي تتجدد من حيث الوسيلة ولكن الهدف واحد، فكلمة " الهرْبة"و"الحرْقة" عاشت مع الشباب الجزائري منذ الثمانينيات والتسعينيات وعرف وقتها "بابور لوسترالي"، وبقي شعار "الهدّة" أكثرهم تعبيرًا عن أحلام الشباب في البحث عن أفق أفضل.

وبالرغم من أن شعار "رُومَا وَلاَ انْتُومَا" و" ياكُلْنِي الحُوتْ وْمًا يًاكُلْنِيشْ الدُّودْ" هي صور قديمة -جديدة لتصورات الشباب الجزائري للهجرة، أو لقناعات راسخة للهجرة حتى وإن كانت بطرق سرية، إلا أنها شعارات تطورت في الكلمات المستعملة من حيث الطريقة والوِجهة.

 كل كتابة أو رسم هو أحد الشواهد الميدانية التي تمثل فئة الشباب الذي يشعر بالتهميش والإقصاء، كما يقول الأستاذ في علم الاجتماع السياسي، عبد الله شليغم لـ"الترا جزائر" لكنها في الوقت نفسه تنبئ -حسبه- بأن " الهجرة مازالت تثير رغبة الفئة الأكثر تركيبة في المجتمع الجزائري، ولا يمكن غض الطرف عنها".

وأضاف أن الجدران ناطقة لأزمة مجتمع عميقة، بغض النظر عن الظروف المعيشية المتاحة ولكنها تنبيه يومي لما تعانيه مختلف فئات المجتمع ووجدت لها متنفسًا في الواقع عبر الجِدار.

كل مرغوب مسموح 

تحمل الكتابات العديد من الأوجه وزوايا نظر، الكثير منها يعبّر عن الهموم ويتحدث عن الأزمات ويعلن عن المواقف التي يصعب على كاتبها الكشف عنها في وسط الجماعة، أو أمام مجموعة حتى وإن كانوا الأصدقاء، ولكنها تكشف عن نداء موجّه لمسؤول في وقت يطغى الشعار "لاحياة لمن تنادي" كما أنه يطالب من خلاله بحق في ظلّ فكرة "ما ضاع حق وراءه مطالب"، وتدوين الأحلام التي لم تنل نصيبها بعد في الظهور على أرض الواقع، وكتابة حقائق يراد لها البقاء لأطول زمن،

في الشارع الذي يقابل الملعب البلدي بوسط مدينة ميلة شرق الجزائر كتب أحدهم: "مدونًا السكنة في هذا السخانة، ياخي راهي باطل"، يبدو أن ما كتبه هو تعبير عما تخفيه العشرات من العائلات الجزائرية التي تبحث عن سكن، غير أن المكان بالتحديد، فيبدو أن المناسبة تتزامن مع ترحيل السكان المتضررين من زلزال.

شعارات تعود وتنطفئ ثم تعود في الجدران، فهي تفضح المستتر وتعري الواقع ودون كاتب محدد، إذ يقول الباحث في الاتصال علي بن صاري في تصريح لـ" الترا جزائر" أنها تحفظ ذاكرة الجزائريين وتغلف تلك الحروف والرسومات نوع من أنواع توجهات الجمهور في الحي وفي الشارع وفي المدينة.

وتحمل "الكتابات على الجدران تجربة إنسانية بعيدًا عن اللغة والأسلوب ولكنها تختصر مسافة بين الحدث والمواقف والأحلام، إذ يضيف بن صاري، بأنها تدخل قاموس لغة الجدران في البلاد.

الباحث في الاتصال علي بن صاري لـ" الترا جزائر" الكتابات الحائطية تحفظ ذاكرة الجزائريين وتغلف تلك الحروف والرسومات نوع من أنواع توجهات الجمهور في الحي وفي الشارع وفي المدينة.

هي موضة متجددة، لذلك تحمل هذه الكتابات رسائل عابرة من مكان لآخر، وأصبحت مع مرور الوقت إلى صوت "الشريحة المقهورة"، أو تلك التي تقول للمجتمع بأنها موجودة، فيما يستعملها الكثيرون للمطالبة بالحقوق وحوصلة لصراعات ومشاكل اجتماعية.