11-يونيو-2022
صورة لحجاج جزائريين سنة 1988 (الصورة: Getty)

صورة ملتقطة لحجاج جزائريين سنة 1988 (Getty Image)

"في سنة 1978 عادت جدّتي بعد آداء مناسك الحج، وفي ذلك الوقت أقيمت وليمة الذهاب ووليمة أكبر أثناء عودتها، إذ كان الاحتفال أشبه بعرس؛ بل هو عرس بلا منازع أو منافس، أقيمت الأفراح خلال سبعة أيام وسبع ليالٍ، فالعائِد من الحَجّ كأنّه مولود من جديد، وتقام على شرفه الولائم ويتلقّى التّهاني لعدّة أيام".

كان سكان المغرب الأوسط (المغاربة والجزائريون والتونسيون) يسيرون في قوافل لآداء مناسك الحج يطلق عليها ركْب الحجّ أو مراكب الحجّ

هكذا كانت طقوس الاحتفال بالحجاج في الجزائر ولازالت العديد من العائلات تسبِق الذّهاب للبقاع المقدّسة بعشاء حافل قبل أيام من السّفر، مجمع عائلي ومختلف أعيان المنطقة والجيران، في حفلة توديع زائر بيت الله الحرام.

زيارة الأراضي المقدسة مرت بتغيرات كما هو حال تغيّرات المجتمع الجزائري، واتسمت بعدد من الطقوس والقصص المتعلقة بمشقّة الحجاج في الذهاب والإياب، ينقلها كثيرون في حكاياتهم في زمن لم تكن فيه ظروف السّفر متوفّرة كما هو الحال اليوم.

قبل قرون: "شوق ومشقّة" 

ظلت عبادة الحجّ من العبادات الشاقّة والمتعبة باعتبارها من أكبر المواسم الدينية في العالم، إذ تتطلّب مجهودًا بدنيًا كبيرًا بسبب تعدد مناسكه وتنوّع شعائره، بل وكانت قبل قرون من الآن تحتاج إلى تخطيط وقوة بدنية لا ينالها إلا ذو حظ عظيم.

في هذا المنحى، ذهبت إفادة الأستاذ الباحث في المدرسة العليا للأساتذة بقسنطينة شرق الجزائر نبيل شريخي، إلى أن سعي المسلمين قبل أربعة قرون في سبيل اللّحاق بالأراضي المقدسة يتطلّب توفير ما يحتاجه كل فرد من القافلة من مال واستِطاعة، وتحمّل المشاقّ التي تعترضهم، لافتًا إلى أنّ "قيمة الحجّ كانت كبيرة وغالية التّكلفة ماديًا وجسديًا، وتخطيط وشوق وانتظار الوصول وشوق العودة للأهل".

وعن تأدية هذه الشّعيرة الإسلامية أضاف شريخي في دراسة أجراها عن الحجّ في إبان الفترة ما بين القرنين الـ14 و15 ميلادي، فهو الموسم الذي يوصف بـ"المشروع الذي يستحق التخطيط مسبقًا بأشهر طويلة وربما بسنوات، فالجميع لا يحظى بهذه الفرصة، إذ هناك استعدادات كبرى لتحمُّل مشاقّ الطريق ومصاعبه بسبب طول المسافة بين شمال أفريقيا والجزيرة العربية.

وأضاف أن "الرحلة إلى البقاع المقدسة كانت عبر طريقين إما عن طريق البرّ أو البحر، وكانت مناسبة اجتماعية وتظاهرة ثقافية وسوقًا اقتصادية، وعنصرًا مهمًّا في حركة الناس وتنقّلهم من منطقة لأخرى ومن بلد إلى آخر".

ركْب الحَجّ

يسير سكان المغرب الأوسط (المغاربة والجزائريون والتونسيون) عبر قوافل يطلق عليها "ركْب الحجّ أو مراكب الحجّ"، كما ذكر الباحث، إذ تتشكّل من مجموعات كبيرة العدد والوسائل، يتولَّى فيها بعضهم ترتيبها وتشكِيلها وإعدادها، لتكون جاهزة للانطِلاق، وأهمّ ما تتزوّد به المراكِب الإبل والخيل للمسير، إضافة إلى توفِير الماء والطعام والموارد الضّرورية للسّفر كالخِيام والأمِتعة المهمة في رحلة الحجّ، دون أن ننسى أنّ هناك من يتناوبون على الرّكب مشيًا على الأقدام".

بالنّسبة لالتحاق الأفراد بمراكب الحجّ يكون عبر رأس القافلة أو رئيسها، إذ يتمّ تحديد مكان الاجتماع ليسيروا منه إلى البِقاع المقدسة، غير أنّ صاحِب حملة الرّكب يلتزِم بتوصيل الحاجّ إما ذهابًا أو إيابًا أو كيلهما، وقد تدفع الأجرة مقدّمًا، أو تؤجل إلى ما بعد العودة".

وحول نوعية الرّحلات المتوفّرة في ذلك الزّمن، كانت تنظمّ على مرحلتين: برية وبحرية من بلاد المغرب نحو الجزائر مرورُا بتلمسان وبجاية وقسنطينة وعنابة وتونس، إلى صحراء برقة وطرابلس والإسكندرية فالقاهرة، ليكون السفر بحرُا من مصر إلى جدّة، في مراكب تحجز فيها الأماكن مسبقُا.

في تلك الفترة، كانت تواجه المسافرين إلى البقاع المقدسة، مخاطر وظروف بسبب المسالك الوعرة إضافة إلى مواجهة قطّاع الطّرق، فيما هناك من يفقد أمواله فيضطر للعمل لتوفير مبلغ يمكّنه من إتمام رحلته إلى الحجاز، وحتّى المراكب التي سافرت عبر البحر، فهي في مواجهة خطيرة مع هيجان البحر وظروفه الطارئة.

الرِّحلة لم تنته عند البعض، إذ تفيد الكتابات التاريخية بأنّ مسيرة الحجّ تسببت في هلاك كثيرين فمات بعضهم في الطريق، وآخرون في الحجاز.وفي مقابل ذلك، تتضمّن الرّحلة الكثير من الفوائد إضافة إلى آداء المناسك، فإنها فرصة لطلب العلم ولقاء العلماء لدى كثيرين، في حين مكّنت الأفراد من نسج علاقات اجتماعية وأتاحت لهم لتحقيق روابط أخوية وصداقات بين مختلف أطياف الدول العربية والإسلامية.

في هذه الرحلة، تشارك البعض ببعض للأكل والعادات والتّقاليد، فيما زار بعضهم بيت المقدِس وعدّة مناطق في العالم العربي من المغرب الأقصى إلى المشرق.

الوعدة أو الطعام

ظلّ السّفر للحِجاز يحمِل الحجّاج على الاحتفال قبل الذّهاب إلى الأرض المباركة، وذلك عبر الاستعداد وتجهيز الثّياب البيض، وعقد جَلسات لتخضيب الحِنّاء، وتنظيم عشاء يضُمّ مختلف أفراد العائلات والجيران والأحبّة، فيما تُحضِّر العائلات نفسها لاستقبال الحجيج بالاحتفالات والأناشيد.

الحجّ في الجزائر  قصص يرويها الزّائرون للكعبة، إذ يكون الذاهب لآداء مناسك الحجّ كالعريس الذي يحضِّر نفسه للعرس والاحتفال وإعداد العدّة والعتاد، كما ذكر عبد الله زيتوني لـ "الترا جزائر"، مشيرًا إلى أن العائلة تباشر في شراء لوازم الحج من اللّباس والأغراض التي تساعده لقيمة السفرية الجليلة منذ إعلان قوائم الحجّ، مضيفًا أن البعض منهم يتلقّى هدايا تكون له زادًا وذخيرة في موسم الحجّ.

رغم التحوّلات التي عرفها المجتمع الجزائري خاصّة في عدة مظاهر منها طريقة الاحتفال بالحجّ لما يسبقه من وليمة تسمّى"الطعم" أو " الوعدة" التي يسبق المسافر إلى البقاع المقدسة في تحضيرها ودعوة أفراد العائلة والجيران لعشاء ما قبل السفر، وفيه تطهى أشهى المأكولات وتقام فيه الصدقات أيضًا.

الملفت للانتباه أن الأسر الجزائرية لا تختلف في تمجيد هذا الطّقس بمناسبة زيارة بيت الله الحرام، لعظمته الدينية كركن خامس من أركان الإسلام، وتعيش تفاصيله التي لا تأت كلّ مرة؛ ففي عديد المناطق الجزائرية، يعتبر الحجّ أكثر من تأدية ركن من أركان الإسلام، لمن استطاع إليه سبيلًا، فبالإضافة إلى ذلك فهو ظاهرة اجتماعية تربط بين روح الشّعيرة الدينية وحياة الناس في تلك الفترة.

وفي هذا الإطار، تحمل احتفالات الحجّ وخاصة منها "الوعْدة" أو إخراج الطعام قداسة، مثلما قالت الباحثة في علم الاجتماع كريمة داسة، إذ يعرف أيضا بطقس "الزردة"  في المناطق الوسطى في الجزائر أو "طعام الموسم" .

وأضاف داسة لـ"الترا جزائر" أن هذا الطقس يتنوع من منطقة لأخرى ويحمل أشكال وصور، بالرغم من التغيرات الاجتماعية والثقافية التي يشهدها المجتمع إلا أن بعض المناطق في الجزائر متمسكة بهذا التقليد، ولا تمرّ سفرية الحجّ مرورًا عاديًا، فالذي فاز بنصيب قرعة الحجّ ينظر إليه بأنه اختير من مكة بذاتها، فهي بالنسبة للبعض من نادت عليه لزيارتها.

وفي هذا المضمار، قالت السيدة سعيدة (57 سنة)، إن زيارة البقاع المقدسة فضل من أفضال الله بأن استجاب لدعوتها بعدما جرّبت تسجيل اسمها في قائمة الراغبين في الحجّ ولم تفلح إلاّ هذا العام بعدما لم تكن من نصيبها قبل ثلاث سنوات.  

يا كعبة يا بيت ربي محلاك

لا يمكن العبور على اقتراب الحجّ إلاّ وتجدّدت الأذن الجزائرية مع الأغنية الشّهيرة، التي ألفتها البيوت الجزائرية: "يا كعبة يا بيت ربي محلاك والسلام على الخليل اللي بناك"، وهي أنشودة من آداء الرّاحل عبد الرحمن عزيز تقدم في كل مرة، وتحمل الكثير من الشغف والتعلق ببيت الله الحرام، والشّوق لزيارته، في قوله: " إن شاء الله نزروها ..إن شاء الله نزورها الله أكبر ونشاهد نورها الله أكبر، يا سلام يا سلام ونشم بخورها الله الله ".

تعلُّق الجزائريين بمكّة كبير جدًا، إذ تعانق الرقاب عمليات سحب القرعة ويتوق الكثيرون إلى تحقيق الأمنية، والدعاء بالسفر إلى الأراضي المقدسة، وهو ما تردده الأنشودة: "إن شاء الله نمشي الله أكبر ونزور القرشي الله أكبر".

كثيرون عاودوا الحجّ مرّتين وثلاث مرات؛ كما أن هناك من يتمنّى الموت والدّفن في البقاع المقدّسة، وهي أمنية يردّدها كثيرون في الشارع الجزائري ممن كانت لديهم هذه التّجربة، وتردّدها أيضًا الأنشودة الشّهيرة: "يا سلام يا سلام يكون ثمّ نعشي الله الله ربي يغفر لي كل زلاتي".

جد البعض صعوبة في توفير التكاليف المادية، لذلك هو ما ينسجم مع كونه شعيرة لكلّ من استطاع على آدائه

https://www.youtube.com/watch?v=RxmKHMa_lXg

في هذا السياق، يعترف محمد كبّاش أنه زار الكعبة في موسم الحجّ 2016، وها هو اليوم يتوق لزيارتها للمرّة الثانية، إذ لم يحصل على جواز سفر الحجّ غير أنه "يعكِف على آداء العمرة، إلى أن يحين العودة مرة أخرى لمناسك الحجّ، فيما يجد البعض صعوبة في توفير التكاليف المادية، لذلك هو ما ينسجم مع كونه شعيرة لكلّ من استطاع على آدائه".