04-ديسمبر-2023
 (الصورة: Getty)

(الصورة: Getty) صحافيون استشهدوا في غزة تحت قصف الاحتلال الإسرائيلي

 

الحرب الإعلامية الحالية التي تديرها بعض المؤسسات الإعلامية أثناء تغطيتها للحرب على غزّة تشبه إعطاء "حقنة تحت الجلد"، من خلال تقديم روايات إخبارية تتجنب تصنيف الجلاد وتوجّه سهام الإجرام على الضحية، حيث تتعاطى بعض الوسائل مع إبادة الشعب الفلسطيني بأسلوب إغفال الأسباب الرئيسية التي كانت الممهّدة للصراع وتبرر الجرائم المروّعة وقصف المنازل والمشافي والمدارس بلا رحمة.

تعويم الأخبار وتسطيحها هو من بين الوسائل التي تقوم عليها آليات الدعاية خاصة في الحروب

ظلّت غزة تتعرض لهجوم همجي من الآلة العسكرية لقوات الاحتلال، غير أن عدة وسائل إعلامية حاولت تجريد الجاني من جريمة ضدّ الإنسانية أمام مرآى العالم، وإلباسه ثوب الضحية، واضعة أخلاقيات المهنة ودواعي الانحياز لواقع الحقيقة على هامش التغطية الإعلامية، وخلف رأسها في غرف الأخبار.

ما تروجه الآلة الإعلامية الغربية بخصوص الحرب على غزّة يمكن أن يفعل مفعوله كـ "حقنة تحت الجلد"، تعمل على مهل وتعيد ترتيب تلقي الجمهور للمعلومات مثلما تبتغيه هذه الوسائل، وتغيّر ما تراه ينسجم مع الرواية الإسرائيلية لما تقوم به من دمار وخراب وإبادة في حق الشعب الفلسطيني، والهجوم على المستشفيات، وهي رواية تتساوق مع نظرة سياسية لعديد البلدان المتحيزة للكيان، فضلًا على تكييف خواريزميات مواقع التواصل الاجتماعي ضد الرواية الفلسطينية وحذف المنشورات الداعمة للقضية.

تستعمل وسائل الإعلام بطريقة أو بأخرى عمليات ترتيب أولويات الجمهور من خلال تأطير الأخبار وإحاطتها بأساليب تتوخّى من ورائها التعتيم تارة أو إخراج الأحداث من سياقاتها التاريخية والميدانية تارة أخرى، وهو ما حدث فعليًا في خبر نشرته الصحيفة البريطانية "تلغراف" مفاده أن "الاحتلال يتجهّز لإنقاذ الأطفال الخُدَّج المحاصرين في مستشفى بغزة"، وهو خبر خالٍ من الموضوعية وأبرز "إنسانية الاحتلال في إنقاذ الرضع" دون أن تحاول هذه الصحيفة بكل خبراتها خلال عقود من زمن وجودها في الساحة الإعلامية أن تتحرى الأمر دون التعاطي مع الرواية الإسرائيلية، ومعرفة  أسباب خطر موت هؤلاء الرضع، كما لم تضع الخبر في سياقه الكامل أو في صورته الحقيقية، فغالبًا ما تضيع الحقيقة في كلمة أو نصف جملة.

بالرغم من أنها خطوات تدرس في الجامعات وكليات الإعلام عبر العالم، إلا أنه من "واجب" بعض الإعلام الغربي أن يطرح سؤالًا جوهريًا ما سبب إقبال المحتل على القيام بهذه الخطوة؟ ومن كان وراء عملية الهجوم على مستشفى يضم آلاف المرضى والجرحى والموتى والجثث في وقت تدينها مختلف الشرائع والقوانين الإنسانية؟، وهل حمل كاتب المقال لغة حوار الطرشان والعميان بأن لا يرى ما تقترفه الآلة الصهيونية في حقّ البراءة من رضع وأطفال ونساء بالإضافة إلى أطباء وممارسين لمهنة نبيلة؟

تعويم الأحداث

حالة "التلغراف" حذت حذوها عدة وسائل إعلام، بالرغم من عراقة بعضها، إلا أنها لم تتمكن من تحرير نفسها من عقدة ارتباطها بالكيان المحتل ومحاولة إلغاء الآخر، وتحاول كسب الرأي العام الدولي في مثل هذه القضية رغم أنها جريمة ضد الإنسانية، في مقابل انحيازها لـ"سردية الإرهاب" في وصفها للمقاومة الفلسطينية.

التصنيف والحكم على طرف دون إدانة آخر، هي السمة الغالبة في التغطية الإعلامية للحرب على غزة، وهو ما يعني أن بعض التفاعل الإعلامي مع ما يجري على الأرض، تزامنًا مع نفاذ الطاقة وخروج عدة مستشفيات عن الخدمة وعدم وصول المؤونة والغذاء والدواء، يعتبر تفاعلا أحادي الجانب ومضللًا في الوقت نفسه، وحتى وإن لفتت بعض الوسائل الإعلامية لبعض مجريات الأحداث من خلال التغطية الإنسانية إلا أنها تحاول تعويمه وطرحه بشكل شامل مغبة السقوط في إدانة الكيان على تلك الجرائم.

تعويم الأخبار وتسطيحها هو من بين الوسائل التي تقوم عليها آليات الدعاية خاصة في الحروب، فالحرب على غزة لا يمكن أن يمسكها الإعلام من مختلف الزوايا دون اللجوء إلى تقديم الحجج والبراهين والرجوع إلى الخلفيات التي تشكل حقيقة تحجبها عملية التزييف للحقيقة أولًا، ومحاولة إدانة طرف واحد ثانيًا، والقيام بتغطية عامة تستند على إطار عام قوامه الحدث الآني والتستر على الجريمة.

تنتهج بعض وسائل الإعلام الغربية استراتيجية اتصالية وإعلامية تستهدف "إزالة الإحساس" للجماهير عبر العالم، وتوجيه التعاطف مع الكيان، بعدما جعل من صور ومشاهد التعرض لمحتوى إعلامي يشوبه الإجرام بأفعال الضرب والقتل والإبادة الجماعية، كحق الدفاع، بدل العمل على وضع تلك المشاهد في سياقها وخلفيتها التاريخية.

تنتهج بعض وسائل الإعلام الغربية استراتيجية اتصالية وإعلامية تستهدف "إزالة الإحساس" للجماهير عبر العالم وتوجيه التعاطف مع الكيان

كما يقلل التعرض لمحتوى يدين الضحية ويصفق للجلاد حساسية الجماهير ومنعها من الاصطفاف مع إنصاف حقّ الفلسطينيين في استرجاع أرضهم، والدفاع عن أنفسهم وعن أعراضهم، وهو ما يؤدي إلى عدم إدانة الجريمة، بل تصبح الوحشية التي تمارسها الآلة العسكرية للاحتلال كأنها ردّ فعل وليس فعل وحشي مارسه الكيان منذ عقود من الزمن بداية من اغتصاب الأرض ثم التهجير ثم العنف الممارس في حق الشعب الفلسطيني والإبادة الجماعية المقترفة لسنوات طويلة.