19-ديسمبر-2019

من المهرجان الدولي للشريط المرسوم بالعاصمة (تصوير: رياض كرامدي/أ.ف.ب)

ثمّة سؤال ضمني طرحته الفيلسوفة الألمانية حنة آرنت، في كتابها "في السياسة وعدًا"، قالت فيه: متى تفقد السياسة معناها؟

يُمكن القول إنّ النظام السياسي في الجزائر هو مصنعٌ أيديولوجي ألقى بنفاياته على الفضاء العمومي

إذا تأمّلنا جيّدًا هذا السؤال في سياقه الجزائري، سنُدرك بأنّنا دائمًا نتصرّف مع السياسة بأنّها بلا معنى، اللهم إذا كانت مقترنة دلالتها بالقيم السلبية، مثل: تبرير الاستبداد، والفساد، والكذب...إلخ

اقرأ/ي أيضًا: النهب "العام" للمال العام

لقد حدث في الجزائر ما يُشبه تلوّثًا طال الفضاء العمومي، بسبب السياسة التي يُمكن تشبيهها بالمصنع الذي يلوّث البيئة بما يتلفّظه من مواد سامّة، سواءً في شكل أدخنة تصعد إلى السماء فتلوّث ما يستنشقه الناس، أم في شكل مواد صلبة يُلقى بها في الأنهار أو في البحار.

استنادًا إلى هذا التشبيه، يُمكن القول إنّ النظام السياسي في الجزائر هو مصنعٌ أيديولوجي ألقى بنفاياته على الفضاء العمومي، فلوّث كلّ مناحي الحياة، حتى أصبح الفساد في كل مكان، من كبير القوم إلى أصغرهم. غير أنّ الأخطر من كلّ ذلك، أن فقد الجزائري الثقة في كلّ شيء، حتى في المستقبل؛ هل سنقول أنّنا ننتمي رسميًا إلى عصر الريبة المُطلقة؟

سأعود إلى سؤال آرنت، لأتأمّل معكم إجابتها عن سؤالها: "فقدان المعنى الذي تجسّد السياسة نفسها في صلبه، هو أمرٌ بديهيٌّ انطلاقًا من كون الأسئلة السياسية الفردية تنتهي الآن إلى مأزق". قد يتّفق القارئ معي بأنّ الكلمة المركزية في هذه الإجابة هي كلمة "المأزق"، وقد ربطتها حنّة آرنت بالأسئلة السياسية الفردية. وإذا جاز لي أن أترك تعليقًا على هذه العلاقة، فأنا سأقول بأنّ فقدان السياسة للمعنى، وربّما لجدواها أيضًا، راجع إلى أنّ الأسئلة السياسية التي يطرحها الفرد، سواءً أكان فردًا عاديًا أو محسوبًا على النخبة، هي في ذاتها تواجه مأزقًا، أو بتعبير الفيلسوفة تنتهي إلى مأزق ما. لكن ما طبيعة هذا المأزق الذي تنتهي إليه أسئلتنا السياسية الفردية؟

 إنّ السؤال السياسي الفردي الذي يعنينا كأفراد في سياقنا الجزائري، يتفرّع إلى أسئلة كثيرة، بل مع الوقت نكتشف أنّ أسئلتنا تتمتّع بقدرة كبيرة على التناسل، ومنها: تغيير النظام، الحرّية، العدالة، المساواة، حرّية التعبير، الحقّ في حياة كريمة...إلخ. وأنا دائمًا أقول: نحن نخلط بين السؤال السياسي وبين تسييس قضايانا الاجتماعية. لهذا أعود إلى ما قلته سابقًا: السياسة لوّثت وجودنا.

هذه الأسئلة صارت بذاتها مآزقًا، وتحوّلت إلى ثقوب سوداء تلتهم كلّ ما يمرّ بالقرب منها. على الرغم من أنها تؤثّث الفضاء العمومي، وتحضر في أحاديث الناس، بل وتحضر حتى عندما يصمتون. "حتى الصمت أصبح موقفًا سياسيًا".

وبالعودة إلى أن السياسة فقدت المعنى، فهذا راجع أيضًا إلى أنّ الخطاب السياسي، كما يخرج من المصانع الأيديولوجية الرسمية، هو مجرّد نظام من الدواليب، مفصولة عن الواقع، أو استندت إلى وقائع وهمية؛ فأن يتحدّث السياسي عن نقلة في الاقتصاد الوطني، أو أنّه لا يوجد فقراء في الجزائر، أو أن الجزائريين في أغلبهم أقدموا على انتخاب الرئيس الجديد، فهذه كلها مجرّد خطابات انبنت على الأوهام فقط، ما يجعلها أقرب إلى الأسطورة منها إلى الواقع.

 إنّ الاستبداد يبدأ عندما يُحجر على حريّات الأفراد وهذا سيفضي إلى تحويل الحرّية إلى مأزق آخر

لا يتوقّف الأمر هنا فقط، بل تفقد السياسة معناها، عندما تنفي الحرية من القاموس العمومي، فالسياسة لا تتحدّد دون الحرّية، بل إنّ الاستبداد يبدأ عندما يُحجر على حريّات الأفراد. هذا سيفضي إلى تحويل الحرّية إلى مأزق آخر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لهذه الأسباب لن أنتخب

شهوة الكرسي وأرقام المحاكمة الفلكية