29-سبتمبر-2020

فنان الراي الراحل الشاب حسني (Getty)

كلّما ابتغينا الكتابة عن الشاب حسني (1968-1994) في ذكرى رحيله، نجد أنفسنا مُكَبَّلينَ بالنوستالجيا والحنين، وفي كل مرّة، نسافر على وصلة "مازال كاين ليسبوار" لنخطّ النصوص والبورتريهات نفسها لعلها تستحضر ابن حي ڨمبيطة حيث وُلدَ واغتيل.

العربي رمضاني: أغانيه كانت بمثابة صيدلية عاطفية توفّر وصفات علاج لأرواحهم الهشة

قد نصحو من كابوس طال أمده، لنلقى راحةً بعد وجع اغتياله، لكننا لم ندرك بعدُ صحوةً، لنكتشف عند كل لحنٍ أو دندنةٍ عابرةٍ ذات خلوة، أن "الملك المُغتالَ" ورغم مقتَلِ آمالنا فيه، واختطافه عنوةً من عرشه، ورغم الضبابية التي تحوم حول هوية قاتليه، ما يزالُ مُتَوّجًا في القلوب، حتى تلكَ الأجيال التي لم تعايش فترات مجده.

هل نَفِي حقّ هذا الشاب الذي عشق كرة القدم صغيرًا وهجرها مرغمًا خائبًا بعد تعرذضه للإصابه ومكوثه في المستشفى لعدّة أشهر، فارتحل نحو الموسيقى بحثًا عن ذاته، واختُطف من بيننا بطلقتين ناريتين في غفلة وخديعة؟ هل نُدرك عميقًا وقعَ كلّ لحن وكل كلمة على القلوب العاشقة، المهجورة، ذات الأوجاع الخبيئة التي عرف حسني شقرون جيّدًا كيف ينتشلها من ظلماتها؟

الشّاب حسني ما بعد الحراك

في حديث لـ "الترا جزائر"، يتساءل الكاتب سعيد خطيبي: "َكم مرّ على رحيل الشّاب حسني؟ لست أدري، فقد توقّفتُ عن عدّ السّنوات، لم يعد مُهِمًا الرّقم الذي يسبق ذكراه، فهو حاضر رغم فداحة الغياب.

"بالكاد نصدّق أنه مات"، يقول محدّثنا: "من يموت تنقطع أخباره، بينما أخبار حسني تدبّ على ألسنة الفضوليين والمُحبّين والنوستالجيين والمسطولين والمشرّدين والحالمين والمُقيمين والعابرين والمُحبطين والمغتربين، كلّ واحد منهم يكلّمنا عن حسني يعرفه، كّل واحد منهم يخترع سيرة موازيّة له، كلّ واحد منهم يدّعي صداقته الافتراضية معه".

يدرك سعيد خطيبي أن الشاب حسني كان رجلًا واحدًا، لكنه مذ أن مات تعدّد، وظلّ حضورًا شفهيًا، مثل جريدة تُقرأ ثم ترمى في أوّل سلّة مهملات، تحوّل حسني إلى مادّة للثّرثرة، للنّميمة، كلمات أغانيه غدت رسائل يتبادلها عشّاق مبتدئون، لكننا عجزنا حسبه، عن تحويله إلى أيقونة ثقافيّة، كي لا ننسى مجازر مجانين الله، كي لا تغرق ذاكرتنا في اللا مبالاة.

يضيف الكاتب: "لا نتجادل في القول إننا نمتهن حرفة القول ونتطيّر من الفعل، فقد جرت محاولة واحدة في تحويل حسني إلى فيلم، لم ينجح مخرجه سوى في شيء واحد هو الكاستينغ، عدا ذلك فقد جاء السيناريو باهتًا، خجولًا، عن مغنٍ عاش متطرّفًا في البوح بما يبطنه الآخرون".

 يعود سعيد للتساؤل عن سبب غياب فيلم آخر يليق بسيرة الراحل، فلا رواية تجعل منه بطلًا، ألا يستحق ذلك؟  نحن من لا نستحق أن يُقيم بيننا الحالمون، الذين ماتوا كي يطهرّونا من خطايانا، مثلما طهّر يسوع المسيحيين من خطاياهم، يضيف المتحدّث.

  الشاب حسني وبوب مارلي!

يحكي الكاتب سعيد خطيبي مسترسلًا، أنه طالع قبل أكثر من عام رواية "تاريخٌ مختصرٌ لسبع اغتيالات" للجمايكيمارلون جايمس  (1970)، وهي رواية عن بوب مارلي في مطلع ديسمبر 1976، سبعة أشخاص ينوون اغتياله.

"الحفل سيُقام غدًا، وتكفي طلقة نارية واحدة كي تقوم القيامة"، لكن المغني ينجو من محاولة تصفيته، ويُقيم حفلًا لمساندة الحزب الحاكم الذي كان يتهيّأ حينها للانتخابات.

 يستطرد  محدث "الترا جزائر" حول الشاب حسني في ذكرى اغتياله، أن هذا ما أراد مارلون جيمس روايته، ولكن من أجل أن يتم القصة كاملة، سوف يحتاج إلى أكثر من 700 صفحة، تبدأ من فهرسة أسماء الشّخصيات، الذين يتجاوز عددهم السّبعين، ويجب على القارئ العودة دائماً إلى ذلك الفهرس، ولا يغفل النّظر عنه، كي لا يضيع في زحمة السّرد، ثم من تمهيد بصوت شخصية ميّتة، مع ملحق في نهاية الرواية، يشرح كلماتٍ وجملًا وردت بالعامية، ما قد يُحبط القارئ، في البداية، ولا يحثّه على قراءة رواية بوليفونية، بهذا الحجم.

 لكن بمجرّد الشروع في الفصل الأول، تتغير الصورة حسب ما يروي خطيبي لنجد أنفسنا أمام رواية نهرية، لا يتوقف فيها سيل الحكايات والأحاجي والنكت والمكائد والمصائب، نخوض في حروب الغيتوهات في كينغستون وصراعات بين اشتراكيين ورأسماليين، ثم ننتقل من جامايكا إلى أمريكا، مرورًا بكوبا، لنلمح تراتبية العلاقة بينها، كما كانت بين الجزائر وفرنسا، نُصادف أشخاصًا عاديين ومخبرين ومهندسين ومروّجي مخدرات وعاهرات، وكما تورط الريغي في علاقة لصيقة بالأمن.

يقص علينا سعيد خطيبي ما سبق، لأن الأمر ذاته قد حصل مع الراي حسبه، لقد خدم الريغي الحكّام ولم يحد الراي عن الطريق ذاته، وكلا النمطين الموسيقيين، يضيف سعيد، قد وُلِدا وكبرًا في أحياء فقيرة، بين أفراد معدومين، صاروا في ما بعد نجومًا في بلديهما.

ثورة غضب

يرى الكاتب أنه يمكن تعويض بوب مارلي بالشّاب حسني وسوف نجد أنفسنا بصدد سرد تاريخ الجزائر المعاصر، إذ يضيف المتحدث أن هذه المرحلة التي نعيشها الآن، ما بعد حراك 22 شبّاط/فبراير 2019، هي اللحظة الأكثر إشعاعًا قصد استعادة حسني من الأرشيف، قصد إعادة تشريح جثته والاستماع إليها، لم يكن الحراك حركة سياسيّة، ولا اجتماعية، كما داوم البعض على توصيفه، بل هو حركة ثقافيّة بالدّرجة الأولى. موجة شعبية ضدّ التّكرار وضدّ المحو، منذ بداية الحراك استعاد الجزائريون ذاكرتهم، بأن الغضب من ثوابت جيناتهم، غضب ضدّ من يسلبهم حقّهم في بلوغ سنّ الرّشد، سيكون هذا الغضب بديلاً عن سنين الخمول وشفاءً إذا امتلك جرأة في أحياء من أرشدونا إلى الطّريق، في بعث حسني صورة ونصًا، لا أن يظلّ مُجرد أغنية أقصر عمرًا من رغو نائب في البرلمان.

حسني.. هربًا من الموت

من جهته، يقول الكاتب العربي رمضاني إن الشاب حسني بمثابة علامة فارقة في حياته، وفي الطفولة المستباحة الملوثة بالدم والدخان وطلقات البنادق.

يضيف المتحدّث أن الأشياء النادرة التي كانت تزيح ركام الموت والرعب هي أغاني الراي، وخصوصًا أغاني الراحل حسني، حيث كان وأقرانه يتطفلون على جلسات شباب أكبر سنًا، حيث كانوا يتسمّرون في الوادي حول مذياع ضخم بشكل مثير للإستغراب، ليبث أغاني راي معظمها لحسني، يدخنون على موسيقاه التي تلامس الروح ويغرقون في صمت وتفاعل تام مع كلماته، آهاته وأحزانه، فرحه الوجيز وأمانيه تجاه الحبيب، لم يكن العربي وصحبه يفهمون شيئًا حينها، حسني كان نغمة حياة وفرح تتجاوز لغة الرصاص وتهديدات القتلة.

لم ينسَ المتحدّث أبدًا ذلك الحفل الضخم الذي أحياه الشاب حسني في ملعب 5 جويلية قبل رحيله الغادر، وحجم الحضور والتفاعل الوجداني الرهيب مع أدائه وصوته الطفولي الٱسر، لقد رأى العربي جزائر أخرى في التلفزيون غير تلك التي تدشن صباحاتها بأخبار الذبح والخطف والتصفيات الجماعية، "جزائر الحياة والألوان والحب في مواجهة اللحى الكريهة والبشاعة الهاربة من كهوف التاريخ".

صوتُ التشبّثِ بالحياة

يحكي الكاتب رمضاني أيضًا أن حسني رافق طفولته وشبابه، كانت تلك الأنغام والكلمات ذاتَ دفءٍ غريبٍ في اللّيالي الشتوية الطويلة بالإقامة الجامعية، إذ أن "أغانيه كانت بمثابة صيدلية عاطفية توفّر وصفات علاج لأرواحهم الهشة".

"نبغيك ماني مهني، عمري عمري، طال غيابك، أرواحي نتفاهموا، ڨاع النسا..."، توحدت كلها حسب العربي في اللحن الصادق والكلمة القوية والأداء البديع المتفاعل مع أحلام ومشاعر وتطلعات الشباب ورغباتهم في عالم ملون بالحب والصفاء وتقدير المرأة.

يرى الكاتب، أن حسني كان نغمة الحبّ الأول والطفولة الغضّة وصرخة الحياة في وجه العدمية، غنى أوجاعنا، خيباتنا، هروبنا نحو واقع أفضل "اللي فيها فيها ڨاع الناس مشات".

يمارس حسني، حسب العربي، تحريضًا عاطفيًا يلامس القلب ويشحنه بدفعة عارمة للبحث عن حياة أفضل خارج الوطن، في دروب البحث تلك، يستجيب لأحلامنا.

يصف المتحدث الشاب حسني بـ "نغمة الانتماء لماضٍ انتصرت فيه الكلمة على الساطور، ومفتاح الذاكرة التي ينفجر فيها الماضي عند أول كلمة أو نوتة تنبعث من الهاتف، في المهجر الوجيز، كما اعتبَرَ أنَّ أغنية الراي آنذاك، كانت ذات علاقة وثيقة بالمكان للإبقاء على تلك المسافة الوجدانية بين الذكرى والحلم، فيتردد صوت حسني قبالة بحر مضطرب صاخب بالنوارس الهائمة والموج الشرس والأفق البعيد".

حسني شقرون هو تلك النوتة العذبة التي ترتب فوضى المكان بلمسة واحدة

 حسني شقرون إذن، هو تلك النوتة العذبة التي ترتب فوضى المكان بلمسة واحدة، قد يسمع الجزائري لساعات لهذا الشاب، ثملًا أو واعيًا بمآسيه، جالسًا في ملهى يعج بالغرباء، أو في مقهى أو عند الحلاق، محاولًا ترويض الذكريات أو القفز على واقعه وشحن أحلامه بدفقٍ عالٍ من الإصرار على الحياة.