22-يونيو-2019

الشيخ ريمون

"كنت أغنّي في جوقته وأنا لم أبلغ الخامسة عشر من عمري، لقد اختارني كي أكون وريثه الشرعيّ، كان صديقًا لأبي ثم أصبح صهري، كان اغتياله أسوأ ذكرى عشتها في قسنطينة (شرقي الجزائر)، تلك المدينة التي أحلم دومًا بالعودة إليها والغناء لها ولأهلها".

اغتيل الشيخ ريمون برصاصة في سوق العصر بمدينة قسنطينة شرقي الجزائر بينما كان يتبضّع رفقة ابنته فيفيان

كان هذا مقطعًا من حوار للفنان الفرنسي ذو الأصول اليهودية/ الجزائرية أنريكو ماسياس، وفي هذا المقطع كان يتحدّث بحنين كبير عن شيخه وأحد شيوخ أغنية المالوف القسنطيني ريموند ليريس أو المعروف بالشيخ ريمون، أحد أكبر الذين بصموا الإرث الغنائي القسنطيني والمغاربي بعشرات القطع الغنائية التي لازلت تغنّى لحدّ اليوم، الشيخ ريمون إغتيل برصاصة في سوق العصر بمدينة قسنطينة بينما كان يتبضّع رفقة ابنته فيفيان، ليكون ذلك اليوم بداية قصّة جديدة ليهود قسنطينة الذين أصبح بقاؤهم هناك بعد وفاته أمرا يشبه المستحيل.

رصاصة محاذية للحنجرة

يروي الصحافي الفرنسي برتراند ديكال في مؤلّفه "الشيخ ريمون..قصّة جزائرية " عن ذلك اليوم الأسود في تاريخ مدينة قسنطينة، يقول: "من المعتاد أن يكون الطقس حارًا جدًا في أوّل أيّام الصيف، لقد بلغت الحرارة ذلك اليوم أعلى مستوياتها، نحن في يوم 22 يونيو/ جوان 1961، في وقت الظهر، سوق العصر عامر بالناس، ستغلق الدكاكين والأكشاك بعد ساعة تقريبًا، في هذا اليوم يكون السوق أكثر جدوى من الأيّام الأخرى، تجد ربّات بيوت العائلات اليهودية في قسنطينة يشترين كل ما يحتجنه لإعداد عشاء الشابات أو (عشاء السبت) الذي يُحضّر كل ليلة جمعة".

ويسترسل ديكال في وصفه "لو أن سائحًا اختار القدوم إلى قسنطينة في هذا اليوم، سيرى صورًا جميلة كالتي نقرأ عنها في كتب السفر؛ سلال من البرتقال وصفوف من البطيخ، وأكياس الخيش المملوءة بالفاصولياء، ولحم وعسل نحل يُشبه الذهب، كان  الخميس هو اليوم الذي نملأ فيه معظم السلال. ربّات بيوت كثيرات يصطحبهن أطفالهن لحمل السلال. فجأة، جميع من في السوق  يرون جثّة رجل في بدلة أنيقة ملقاة على الأرض، وقبعته بالقرب منه  ملقاة في بركة دم.

اختلطت على الناس مشاعر الذعر والبكاء والركض. ذلك الشخص كان ريمون ليريس، بعد موته فهم الجميع على الفور أنها ليست مجرّد مسألة وفاة رجل مشهور ومحبوب. بل بطريقة ما، هي أيضًا وفاة  لبلد كامل، بلد كان يتحدّث فيه الرجال والنساء والأطفال من ديانات مختلفة اللغة نفسها وهي العربية منذ فترة طويلة، ثم العربية والفرنسية بعد دخول فرنسا. بلد يعزف الفنانون الموسيقيون في الفرقة نفسها دون أن يفصلهم دينهم. بلد وصل فيه يهودي لقمة الفن العربي".

سلطان طابع المالوف

كان الشيخ ريمون يحمل اسمًا فرنسيًا، يعرفه العامّة يهوديًا، ويغنّي بالعربية موشّحات ونوبات من المالوف القسنطيني الذي كان له فضل كبير في تحديثه، لقد كان يبدع في غناء "مال حبيبي مالو"، ويجعل المنصتين يخشعون حين يصدح بصوته شاديًا "ناعورة الطبوع" أو " قلت يا حبي تلطّف".

 لقد كان ريمون وهو من أب يهودي جزائري من باتنة وأم فرنسية، الصوت الأوّل للمالوف في عصره، لقد كان نجمًا بالمعايير الحالية. كان يملك موعدًا أسبوعيًا قارًا في الإذاعة، ويطرب السامعين في الحفلات العامّة والخاصّة، لقد كان جسرًا إنسانيًا في مدينة الجسور المعلّقة، كان رابطًا بين طائفتين، وهمزة وصل ثقافية بين عرب ويهود قسنطينة، كان يحظى بالاحترام نفسه من الطائفتين، كان لمّا يعزف أنغاما بعوده، تتطاير الأفراح في وجوه أهل قسنطينة وتذوب الخلافات والاختلافات فقد كان يجمع في فرقته موسيقين يهود وعرب، يصنعون الفرجة في تناغم تام بعيدًا عن أي تجاذب، وقد سجل الشيخ ريمون أكثر من ثلاثين ألبومًا ما بين 1956 و1961 رفقة فرقته الموسيقية.

ملح على الجرح..

لم يكن الحرز الذي كان يحمي قسنطينة كافيًا ليحمي الشيخ ريمون ذلك اليوم من رصاصة قادمة إلى عنقه أردته قتيلًا، أجمع كثيرون أن من قتل الشيخ ريمون فدائي من جبهة التحرير الوطني، كانت مهمّته إغتيال ريمون بعد الإشتباه بانضمامه للمنظمة السرّية التي كانت ضالعة في أعمال تخريبية وعمليات اغتيال في الجزائر، بعد أن صار الإستقلال أمرًا لا مفرّ منه، فيما يقول البعض أن فرنسا كانت سببًا غير مباشر في قتل ريمون بعد أن قرّرت منح الجزائريين اليهود الجنسية الفرنسية دون سواهم ممّا أشعل فتيلا من الحقد والضغينة.

في المقابل تذهب بعض الروايات إلى نفي ذلك كون الشيخ ريمون لم تصدر منه أي سلوكات معادية لثورة التحرير، بل كان يعيش في قسنطينة ويحيي حفلات فيها وكان محبوبًا، وكان الجميع يجتمع حول غنائه مستمتعًا، فيما وصل الأمر بصهره أنريكو ماسياس أن طلب فتح ملف إغتياله لأنه لم يصدق رواية إعدامه من طرف جبهة التحرير، إذ أنّه لم يكن أبدًا معاديًا للثورة، مؤكدًا أن اغتياله كان عملًا انتقاميًا.

التقط يهود قسنطينة والجزائر عمومًا إغتيال أشهر فنانيهم بمثابة إشارة على أنهم لم يعد مرغوبًا فيهم بالمدينة التي استوطنوها لقرون وصنعوا فيها تاريخًا زاخرًا في الفن والحرف والأدب، وأصبحوا علامة بارزة فيها في ظلّ تعايش سلمي مع العرب المسلمين.

كانت وفاة الشيخ ريمون  بداية لرحيل آلاف اليهود من الجزائر نحو فرنسا وتونس ووجهات أخرى

 لكن مباشرة بعد اغتيال الشيخ ريمون، بدأت تظهر بعض السلوكات المعادية لليهود وعاشت قسنطينة بعض المشاكل حينئذٍ، بل وهناك من يقول أن بعض اليهود حاولوا اغتيال الشيخ الطاهر الفرقاني انتقامًا لمقتل ريمون، ممّا أضطره للهروب متنكرًا إلى مدينة عنّابة. لقد كانت وفاته بداية لرحيل آلاف اليهود من الجزائر نحو فرنسا وتونس ووجهات أخرى، ولازالت بعض العائلات اليهودية لحدّ اليوم تسكن قسنطينة، فيما يعيش آخرون غربة مملوءة بحنين العودة إلى مسقط الرأس ومهوى الأفئدة.