يعتبر العيد فرصة لتوطيد العلاقات فيما بين الجزائريين، ويحرصون على قضائه بين أحضان العائلة الكبيرة، برغم حالة الانفصال التي تعرفها بعض الأسر التي تسللت للبيوت لأسباب كثيرة، فبين الحنين لبيت حمل الذكريات وجمع شمل أبنائه خلال المناسبات، وبين البعد عنه لأسبابٍ كثيرةٍ، تظلّ مثل هذه المناسبات موعدًا لإعادة ترميم العلاقات الاجتماعية وفرصة لتبادل الزيارات العائلية.
بعد انتهاء إجازة العيد يعود الجزائريون إلى يومياتهم العادية لكن الدار الكبيرة تبقى في مكانها منشأ العائلة ومكان البدايات
تمدد العائلة النووية وانتشارها، يجعل الكثيرين يحنون إلى "نكهة العيد" الطيبة التي تفوح رائحتها في لمّة الأهل وجمع الأقارب ومناسبة لزيارة الأحباب.
البُعد يعني الحنين
بالرغم من بُعد المسافة، ترفُض السيدة كريمة منداس من ولاية الجلفة غربي العاصمة الجزائرية، قضاء المناسبات الدينية بمعزل عن العائلة الكبيرة، ففي الأسبوع الأخير من شهر رمضان تحطّ الرحال رفقة أبنائها وزوجها ببيت العائلة في منطقة سيدي لعجال، كما أنها تحرص على العدل في تقسيم تلك الأيام المتبقية من الشهر الفضيل بين العائلتين، أي بين عائلتها وعائلة الزوج وأقاربهما.
تقول لـ"الترا جزائر"، بأن العيد لا يحلو إلا في "الخيمة الكبيرة"، مثلما يُوصف بيت الجدّ في بعض المناطق الجزائرية، وتقصِد المتحدثة هنا تحديداً "البيت العائلي الخاص بالوالدين".
وتضيف، بأنه حتى بعد وفاة الوالدين، التي تغيب بهما تلك الفرحة، إلى أن تلك العادة ظلّت متواترة في العائلة، فيجتمعون في تلك الأيام المباركة برفقة الأخ الأكبر الذي مازال يشغل البيت العائلي لحد الساعة، وتقول إنه في مقام الأب.
"اللمة العائلية لها طعم خاص ورائحة متميزة"، تضيف قائلة بأنها بالرغم من تنقلها مع زوجها للعيش في منطقة "بوفاريك" بولاية البليدة، وسط الجزائر، بسبب وظيفتهما القريبة من العاصمة، إلا أن العيد يصبح عيدين عند اجتماع أفراد العائلة كاملة، ويلتئم شملهم بعدما فرقتهم ظروف الحياة.
من هذا المنظور، يرى كثيرون أن مناسبة العيد مازالت تحمل صورة نمطية في المخيلة، قوامها " قضاء المناسبة مع كبار العائلة وخاصة الجد والجدة، ثم الأعمام والأخوال، إذ يعني بالنسبة لهم "اجتماع أفراد العائلة في بيت واحد"، ولملمة شملهم في مناسبة دينية، يرتفع فيها منسوب البحث عن صلة الرحم والتزاور بشكلٍ لافتٍ وتناول إفطار رمضان في طاولة واحدة، وذلك يكون غالبا في بيت الجد، أو العم الأكبر، بالنسبة للأحفاد.
وفي هذا الإطار، يشير أستاذ الرياضيات فريد زياني إلى أن عائلته رسخت عادة أسبوعية، تناول الغذاء يوم الجمعة في بيت الجد، إذ يجتمع جميع أفراد العائلة الواحدة من أبناء وأحفاد في البيت الكبير ويحضرون غداءً واحدًا قد يكون قوامه طبق الكسكسي التقليدي، فما بالك بيوم العيد؟
يقول الأستاذ زياني وهو أب لطفلين، إنه يرغب في الاستمرار في مثل هذه العادة، ويأمل أيضًا في أن يشهد يومًا ذلك بين أولاده وحتى أحفاده، مشيرًا في تصريح لـ"الترا جزائر" بأن اللمّة هي ميزان العائلة المتماسكة، وهذه الأخيرة هي من أسباب استمرار التضامن بين أفرادها، وينعكس على المجتمع أيضًا.
العودة للديار
يرى البعض، وخاصّة الرجال بأن لمّة الدارة الكبيرة، لا تعوضها لمة أخرى، حتى وإن كانت بين الأحباب، غير أن " الوالدين والأهل" هم الأقرب لتلك الفرحة والسعادة، إذ يعتبر شهر رمضان فرصة لتعزيز تلك الروابط العائلية وعيد الفطر يرسّخها أكثر.
ويقول إلياس منصور، أصيل منطقة بوغني بولاية تيزي وزو، بأنه انتقل للعيش مع الأسرة إالى منطقة الوادي بحكم المهنة، غير أن العيد لا يحلى له دون العودة إلى قريته ومنطقته ويقضي إجازة المناسبة الدينية بين أحضان العائلة.
ويحرص السيد منصور وهو أب لأربعة أطفال على الالتزام بعادات وتقاليد منطقته وأسرته أيضًا، إذ يشدّد في تصريح لـ" الترا جزائر" على أن هذا العودة للديار في مناسبة العيد، هي أيضًا مناسبة لتجديد روح العائلة والتنفيس عليه وأولاده وأهله برؤية الأهل والأحباب.
ويذكر بأن الحنين إلى العائلة يعود في المناسبات الدينية، خاصّة وأن البيت الكبير هو بيت الطفولة وذكريات الشباب، وهو الأصل لأنه يجمع شمل العائلة الواحدة ويحتفظ بأفراحها وأحزانها، كما كان شاهدًا على أعراس الأبناء وولادة الأحفاد.
ويشير في الأخير، إلى أن بقية البيوت التي تتفرّع من البيت العائلي الكبير، بفعل استقلالية الأبناء، "ماهي إلا مباني من آجر وإسمنت" وحتى إن جهز بيتًا فاخرًا وغادر إلى أجمل المدن الجزائرية أو إلى بلد آخر.
الظروف حائل
إذا كان القصد من عادة "اللمّة في شهر رمضان والعيد"، هو الجمع الحسن للأرحام والأقارب، دفعت بعض الظروف الاجتماعية والاقتصادية، بالكثيرين إلى اختيارات صعبة، سعيًا منهم نحو الرزق، فكثيرة هي الأسر التي شتتها ظروف الحياة العصرية، وزادت في تفتيتها، تعقيدات المدن والوظائف ومجالات العمل التي تسبّبت في الهجرة عبر المدن، وقبلها من الريف إلى المدينة، وهذا لأسباب اقتصادية أولًا واجتماعية ثانيًا.
وبالإضافة إلى ما سبق، فإن تلك الظروف أحيانًا تدفع بالبعض إلى أن يعيشوا تلك الفرحة فرادى، نظرًا لبعد المسافات بحكم العمل، فكثيرون يقضون إجازة العيد بعيدًا عن الديار وربما خارج الحدود، فالتكاليف صارت باهظة، إذ يفضّل البعض إلى صرفها للعائلة أفضل من دفعها ثمن لتذكرة سفر.
حاجة نفسية
بصورة مغايرة، فإن "العودة للبيت الكبير"، خلال المناسبات والاحتفال بالعيد بين فترة أخرى مع أفراد الأسرة الكبيرة، له جذور وهدف تحقيق غايات نفسية بالدرجة الأولى كما تقول أستاذة علم الاجتماع، في جامعة الجزائر، سميرة فردي، لافتة إلى أن الحافز الأكبر هو وجود تلاحم بين أفراد الأسرة الممتدة أو الموسعة المكونة من مجموعة عائلات نووية المشكلة من الجد والجدة والأعمام والأبناء والأحفاد.
وتضيف اللمة نكهة لكل مناسبة، إذ ترى محدثة "الترا جزائر"، بأنها تزيد من ترابط الأسر والتحامها في السراء قبل الضراء، في المناسبات الدينية كرمضان والأعياد، والمناسبات الاجتماعية كالأعراس والاحتفالات، وفي الأحزان بأشكال التكافل والمواساة كالبنيان المرصوص.
يقوي الاجتماع في بيت واحد الرحمة والألفة بين قلوب أفراد الأسر، فمهما كبروا فاللمة في مثل هذه المناسبات تزيد المحبة بينهم، والملاحظ، أن هناك عدّة عوامل غيرت الأسرة الجزائرية، أهمّها مادية واقتصادية، وهو بحسب الأستاذة فردي تغير يتناسب مع متطلبات العمل في المراكز الحضرية، وأدى إلى "ظهور نمط أسري جديد يتكيف مع المتطلبات الحياة، وهو ما أدى بدوره إلى تقلص العلاقات الاجتماعية".
ومن مظاهر ذلك، تغير قيم الأسرة، إذ زعزع التنقل المكاني – كما تضيف لـ" الترا جزائر"، العلاقات القرابية وفرض نوع من العزلة على الأسرة الحديثة، وتوسع رقعة النزعة الاستقلالية التي لا تسمح باستمرار الأسرة التقليدية.
بقول الأستاذ زياني إنه يرغب في الاستمرار في مثل هذه العادة، ويأمل أيضًا في أن يشهد يومًا ذلك بين أولاده وأحفاده
انتهاء الإجازة
بعد انتهاء إجازة العيد، يعود الجزائريون إلى يومياتهم العادية، ويستيقظ البعض على العودة إلى روتين الحياة من عمل والسعي إلى الرزق والدراسة والاهتمام بمشاغل الحياة، لكن الدار الكبيرة تبقى في مكانها، منشأ العائلة ومكان البدايات وفضاء للأفراح والأحزان، إذ لا تبخس من زارها بالقليل من الأحاسيس التي لا يمكن لأيّ مكان تعويضه.
