16-أكتوبر-2024
مهنة القطاع

القطّاعون هم الأكثر طلبًا في موسم جني التمور في بسكرة

مع اقتراب موعد جني التمور في طولقة والدوسن ولغروس يبدأ ملاك جنان التمور موسم صيد أمهر "الڤطَّاعين"، وهم في العادة عمال مهرة يتولون تقطيع عراجين التمر المتنوعة قبل تحويلها للسوق والوحدات المختصة في التوضيب والتسويق.

القطّاعون هم في العادة عمال مهرة يتولون تقطيع عراجين التمر المتنوعة قبل تحويلها للسوق والوحدات المختصة في التوضيب والتسويق

وفي بداية موسم الجني يتوقف القطّاع سفيان باها، 45 عاما، عن عمله الرسمي كبستاني مرسم في مؤسسة فندقية في مدينة بسكرة ليتفرغ خلال شهر ونيف لعمله الموسمي الذي قد يجلب له في خمسة وأربعين يوما دخلا يكاد يوازي أو يفوق مداخيل عام كامل في وظيفته القارة.

عراجينٌ ومِنجلْ

يتلقى سفيان الكثير من الاتصالات من مالكي بساتين التمور في واحات النخيل، الذين يشرعون في سباق ضد الزمن لحجز قطّاع جيد وماهر، إذ أن ما يؤرقهم هو ضمان من يحوّل منتوجهم المعلق بين الجذوع إلى سلعة قابلة للبيع والتسويق في الأسواق.

 يقول السيد عمر مالك جنان نخيل في ولاية بسكرة الشهيرة بدقلة نور لـ " الترا جزائر" واصفًا شعور التاجر الخائف على تلف سلعته أمام عينيه: " تفاديا لكل مفاجأة غير سارة، أشرع في الاتصالات مع القطّاعين خلال فصل الصيف، وتحديدا في فترة التلقيح بالذُكَّار، بالنسبة لي لا أجد مشكلة لأني متعاقد مع قطاع يأتيني كل عام، وأنا أفعل هذا تجنبا لتعقيدات تشبه تعقيدات أرباب الأسر الذين ينتظرون في قلق ذبّاحا صبيحة عيد الأضحى".

سفيان باها، قطّاع تمر لـ "الترا جزائر": بالنظر لكثرة واحات النخيل هنا فإن الرزق مضمون ولا ينتهي، لكن المشكلة هي كثرة الطلب، ما يحتم عليّ إعداد برنامج تدخلات يومية كما لو أنني طبيب جرّاح

أمّا سفيان فيضطره الأمر لإعداد برنامج خاص لتوزيع عمليات التدخل، مع ما يتطلب ذلك من المفاوضة حول السعر، فيُشير لـ " الترا جزائر" ضاحكًا: " بالنظر لكثرة واحات النخيل هنا فإن الرزق مضمون ولا ينتهي، لكن المشكلة هي كثرة الطلب، ما يحتم عليّ إعداد برنامج تدخلات يومية كما لو أنني طبيب جرّاح".

قطّاع

 أما إذا ما أعطى كلمة لصاحب واحة فإنها تصير ملزمة على الوفاء بالوعد والعهد، حيث يقول لـ " الترا جزائر" حازمًا: " الكلمة مثل طلقة بارود إن خرجت لا تعود، فإذا ما وافقت على تقطيع عراجين بستان نخيل فعليّ أن أفي بوعدي، ذلك أن صاحبها قد يتعرض لأعطال قد تسبب له مشكلات عويصة في البيع وآجال التسويق وغيرها، وطبعا يجري الاتفاق حول عدد النخلات التي سأتولى وظيفة تقطيع عراجينها فلكل نخلة سعر محدد بحسب الغلّة".

قصّة المَربُوحة

في هذا الصباح الباكر، جاء سفيان بدراجته النارية من مدينة فلياش قاصدا بستان نخيل لصاحبها المستثمر يحي، وهو في الأصل مالك محطة وقود تحوّل للنشاط الفلاحي عبر شرائه واحةً في مدخل بلدة مشونش.

انطلق جني التمور هنا قبل شهر، في انتظار أن تسرّع شمس "طيّابة العرجون" إنضاج تمور الدوسن ولغروس  وطولقة خلال الأسابيع القليلة المقبلة.

يرتدي القطّاع الأربعيني الأسمر مريلة داكنة كي يساعده على الحركة، فأهم شيء في هذه المهنة التي يناور فيها المحترف نخلته هو حركة الجسم، الذي يستعمل ثقله لحفظ توازنه لأن كل " زَلْقة بفلْقَة" كما يقولون.

قطّاع

يستعرض أمامي عتاده قبل أن يشرع في تسلق نخلة بعلو عشرين مترا، وهي أدوات خفيفة لكنها فعالة لذا فهو يدسها بعناية في جرابه، فلديه منجل، وحبل مزود بمشبكين حديديين، ومنشار، ومقص، بالإضافة، إلى " المربوحة" وهي حزامة دائرية يلفها حول خصره ممتدة حول جذع النخلة، على شكل حلقة حبل متينة، يستخدمها كمسندة حينما يشرع في ركوب النخلة حافي الرجلين، فيتكأ عليها بظهره ويفرد قدميه خطوة خطوة بين نتوءات الجذع المسننة كما لو أنها أدراج، حتى يبلغ قلب النخلة لتقطيع العراجين الدانية.

هنا، يوضح سفيان تفصيلا بالغ الأهمية لـ "الترا جزائر" مبتسما: " في السابق كانت المربوحة تسمى العَدَّة، لكن القطاعين قرروا تغييرها لأسباب متعلقة بالذوق العام وطلب الفأل الحسن، حيث اتضح أنه من المعيب أن نستفتح اليوم بلفظة العدة التي لها مدلول آخر يتعلق بشأن نسوي حميمي، لذا سميت المربوحة، لأنها هي أصل الربح، بمعنى ربح الحياة والنجاة، حيث أنها حزام الأمان الأخير بالنسبة لممارسي هذه المهنة الخطيرة، أو قل هي شعرة معاوية بين العودة للمنزل أو النوم الأبدي في المقبرة".

يصعد رويدا رويدا قبل أن يتوقف للحظة، ليضيف: " في واقع الحال بدأت هذا العمل في جنان والدي بمنطقة المالح، وعمري تسع سنوات، اليوم، عمري 45 سنة، وهذا يعني أني أمارس هذه المهنة الموسمية منذ 36 عاما، كما أني أحسن تلقيح النخيل ومداواتها منذ نعومة أظافري، فابن البطّ عوَّام"

طقوس الجني

ومن قلب النخلة التي يصلها بخفة ومهارة، يقص العرجون قبل أن يثبته في مشبك معدني موصول بحبل في الطرف، قبل أن يدليه نحو الأسفل، في نفس الوقت الذي يكون فيه الطرف الثاني للحبل عنده، وفيما يشرع في مواصلة عمله مستندا على المربوحة في الأعلى، يهرع عمال لتلقف العرجون النازل قبل قطع زائدة عن جذعه بمنجل حتى يسهل وضعه في سلال كبيرة من الحلفاء، وكي تكون الحمولة جاهزة للشحن في مركبة تاجر يتهيأ لحيازة بضاعته ثم التوجه بها لسوق التمور.

حين ينتهي من نوبة تقطيع عراجين ثلاث نخلات يستلقي نجم الواحة لدقائق، ليكرع ماء ثم رشفة من محلول "إكليل الجبل" الذي حمله معه في قنينة، كيما يساعده على استرجاع طاقته ونشاطه، قبل أن يشعل سيجارة " برزيلي " أو " المقسوس" المحشو بتبغ العرعار.

قطّاع

وهي فرصة يواصل فيها المحارب المستريح الحديث عن مهنته الشاقة معلقًا:" هي مهنة شاقة، تعتمد على اللياقة الحسنة لا القوة، كل ما تحتاجه هو التقنية والخبرة، وهي متعبة لأننا نشتغل بكامل جسدنا من الرجلين لليدين وبالظهر وحتى العنق، من باب الوقاية لا ينصح محترفها بممارستها في حال ما كان منهكا أو مرهقا".

يرفع عنقه نحو نخلة فرغ منها لتوّه ليضيف: " بعض نخيل منطقة بوشقرون منهكة لأنها عالية فهي تتجاوز هذه التي أمامك بالضعف، إذ تفوق الثلاثين مترا بقليل، كما أنها نخلات عارية، وهي ليست متاحة للقطاعين المبتدئين، لأن كل سقطة من النخلة، تعني أمرين لا ثالث لهما، الإعاقة مدى الحياة، أو الهلاك المعجل".

الموت أو الإعاقة

وعلى ضوء قاعدة " لا ينجو ساقط من نخلة أبدا" يروي سفيان بعض الحوادث التي كان شاهد عيان فيها، وأقرب تجربة كانت العام الماضي، فيقص لـ " الترا جزائر" متحسرا: " شخصيا تعرضت لعدة حوادث نجوت منها لأنها كانت انزلاقات تحكمت فيها بخبرتي المكتسبة كي لا تتطور لسقوط حر. لكني لا أنسى أبدا ما حدث لرفيقي. فبينما كنت أقطع عراجين في بستان في فلياش العام الماضي، سمعت صرخة مدوية، فأمرت طفلين للتقصي عن مصدرها، فعادا بعد دقائق لاهثين ، وهما يصرخان: "سقط النوري القطّاع".

وإلى ذلك يضيف: " عندما وصلت وجدت رفيقي النوري قريشي يتضور ألما، لقد كانت سقطة قاتلة على العنق، وسرعان ما لفظ أنفاسه بعد نقله إلى المستشفى."

قطّاع

وهذه الحوادث المميتة تخلدت في مقولات شعبية بسكرية، تقول إحداها وفق ما ينقله المتحدث في تشبيه بينها المرأة المولدة بطريقة قيصرية لا تعرف نتيجتها النهائية:" لي فارس فارس النخلة، ديما قبرو مفتوح كيما المْرَا على الولادة".

يتذكر سكان فلياش قصة هلاك " كحول" واحد من أشهر قطاعي الجهة، الذي كان معروفا بشطارته في طي عراجين سبعة بساتين في يوم واحد، وإزاء ذلك تعرض لحالة إجهاد قصوى تسمى " الفلق"، عجلت بوفاته متأثرا بنوبة قلبية.

وهذه المهنة القاتلة هي في جانب آخر مجزية من الناحية المادية حسب حمولة النخلة، ثم حسب عدد العراجين، وهي تتراوح كما يقول أحد رعاة الجنان: " تبدأ الأسعار من 400 دج للنخلة وترتفع إلى 600 وحتى 800 و1000 دج".

ربحٌ وفير

يكشف سفيان الذي عاد مؤخرا من كسر في الرجل جراء سقوطه من دراجته النارية، لـ " الترا الجزائر" ما يلي: " لست في كامل لياقتي البدنية بسبب الإصابة لذا ومن باب الاحتياط أتفادى العمل المتعب فأكتفي بمجموعة نخلات في اليوم. حيث أقطع ما بين 20 إلى 30 نخلة".

عن حد عمله الأقصى يشير: " يمكنني أن أقطع حتى 60 نخلة، مثلما يحدث لي في سيدي مصمودي، وسأنتقل هناك غدا بناءً على موعد مع "شهبندر" تمور هناك".

قطّاع

تتراوح معدلات المداخيل اليومية المتوسطة ما بين مليون سنتيم أو أكثر من ذلك بقليل، لكن سفيان يعقّب: " يمكنني أن أبلغ مليوني سنتيم في اليوم".

وفي المحصلة النهائية لنشاطه الموسمي يقرّ محدّث " الترا جزائر" ضاحكا: " في الحالات الدنيا أجني ما بين 10 إلى 20 مليون سنتيم خلال هذا العمل الموسمي، غير أن المدخول قد يكون مضاعفا في حال الاجتهاد إذ سبق لي وأن  حققت 45 مليون سنتيم خلال أربعين يوما، و هذا كسب وفير ومحترم".

يعقّب صاحب البستان مصدقا هذا الرقم مذكرا: " أعرف قطَّاعا حقق 46 مليون سنتيم في شهر واحد في واحة باينان المجاورة".

يتوقف سفيان عن العمل في الأسبوع الأخير لعطلته، وقبل أن يستأنف شغله الرسمي كبستاني في فندق الزيبان، يعلن نهاية موسم "التقطّاع" بالنسبة إليه عبر ما يراه مناسبا للاسترجاع والاسترخاء حيث يختم:" بعد تعليق المنجل، أقضي أياما في حمام الصالحين، وهو نوع من التطبيب الحموي لجسدي بعد شهر ونيف من التنقل بين البلدات والعيش معلقا لساعات طويلة فوق رؤوس النخيل".