29-يوليو-2022
يعاني كثير من الشباب الجزائري من ظاهرة المحسوبية في التوظيف (الصورة: Getty)

يعاني كثير من الشباب الجزائري من ظاهرة المحسوبية في التوظيف (الصورة: Getty)

هناك حكمة تقول: " إن لم تعرف عنوان رِزقك، فرِزقك سيعرِف عنوانك"، لكن في الجزائر يعتقد رشيد قلاتي من منطقة البيض غرب الجزائر أن المعريفة، أو المحسوبية أو الوساطة هي الصحّ، على حدّ قوله، إذ جاب العديد من المناطق طالبًا منصب عمل دون جدوى، ليستقر به الأمر في ورشة للبناء بمنطقة  الرويبة، شرق العاصمة الجزائرية.

يرى البعض أن الاعتماد على "المعريفة" أصبح ضرورة ملحة خاصة عندما يتعلق الأمر باستعمال الوساطة من أجل توظيف شخص يستحق منصب العمل 

هذا الشاب ذو الـ29 سنة ترعرع في منطقة صغيرة، لا يملك في تاريخه سوى شهادة التكوين المهني، طرق الأبواب لكنه خاب مقصده ليصبح كمن يبحث كلّ يوم عن إبرة في قشّ. يقول لـ"الترا جزائر"، إنه "من الصعب جدًا العثور على العمل هذه الأيام، فكثيرون من أمثالي يشتكون لكن من يبحث سيجد حمّالًا أو مساعد بناء ماهر، أو حتى من يجمع بقايا الحجارة بعد تهديم منزل فخم أو عمارة أو حمل أكياس الرمل والآجر".

يستطرد المتحدث: "في بلادنا، من لديه أكتاف سيشتغل ومن لا يملكها فعليه أن ينتظر" على حدّ العبارة المقتضبة التي انتشرت كثيرًا في التوظيف وخاصة في المؤسسات الحكومية: "بعثني ليك فلان، أو من أرسلك؟" .

المحسوبية أو الوساطات، حسب هذا الشاب، جعلت من الكثيرين يفقدون رأس الخيط في البحث عن عمل عبر مؤسسات الحكومة، بل يعتبرون وضع ملف طلب الشغل ضربًا من ضروب "الجنون"، هذا هو التّحليل اليومي لشباب الجزائر، بكلمة واحدة، وكلّ يركز على الزاوية التي يراها مِن خلفيته الاجتماعية وقدراته الاقتصادية ومِن مقصده ومعرفته ودراسته وتعبه وأهدافه.

الاجتهاد لا يكفي

من جهتها، تتحدّث رانية مكتاف (32 سنة) من منطقة عين مليلة، شرق الجزائر أنها سبق لها وأن تعثرت في خانة المعريفة في سنة رابعة ليسانس، إذ حُرِمت من منحة للخارج بسبب الوساطات التي سيطرت على مخرجات المِنح الجامعية، لافتة في حديث لـ" الترا جزائر"، أن كثيرين يعرفون هذه الحقيقة، فغالبًا ما توضع عدة منح لـ" الحاشية" و" المعارف"، على حدّ قولها.

في قصة رانيا حزن كبير بعد تبخّر حلم  إتمام دراستها العليا (سلك الماجستير) في جامعة أجنبية، ولكنها قصة فيها طرافة أيضًا كما رددت: " لقد كان لصّ المنحة خفيفًا وظريفًا أيضَا، إذ علم المتحدثة درسًا كبيرًا ".

وأردفت قائلة: "لقد نُزِع حقّ المِنحة ببلادة شديدة، صدّقت أن النجاح بمعدل محترم سيوفِّر لي كرامة، إذ كانت ترى العالم من أعلى بعدما رأته من أسفل".

وتواصل حديثها من هذه الواقعة المؤلمة جدًا: "المعريفة" أوصلت طالبًا إلى جامعة أجنبية بأسهل الطّرقات وأقلّ التكاليف وبأبخس الأثمان وبأخفّ الأحمال، لكنها في الوقت نفسه لم تمنحه فرصة التمتّع بالرحلة العلمية على مدار ثلاث سنوات ولم يتحصل على الشهادة العليا إذ ترك الجامعة لأنّه كره العلم فهو لا طالب علم ولا باحث فقد معها شغف الحياة وعاد أدراجه يسوق سيارة فاخرة في شوارع العاصمة دون وِجهة.

حِصان رابح

على عكس ما يراه البعض فإن آخرون ينظرون لهذه الخطوة المتعلّقة بورقة المحسوبية كضرورة ملحّة في بعض المواقف، فليس من العيب أن تتوسّط لشخص في الحصول على وظيفة، كما قال كريم محمودي الموظّف في مؤسّسة "مترو" الجزائر، مواصلًا فكرته بالقول: "على الأقلّ الوساطة لأجل شخص يستحقّ فعلًا ويشرِّفك في القادم من جُهدِه، ويملك بذرة التعلم والتطور والتقدم والإنجاز".

بعبارة أخرى، فإنّ الوساطة أو "المعريفة" تجوز حسب محمودي خصُوصًا لدى العديد من الفِئات التي تحتاج إلى دعم، ممن لا تملك سوى الحلم أو تعثّرت بسبب الظروف الاجتماعية، وإضافة إلى ذلك يعتقد أنها سائرة من مبدأ "المُراهنة على حصان رابِح ولا يحرجك مع من توسّط له من زملاء مهنة "في النهاية هذه الوساطة ماهي إلا سبب لإنقاذ شخص".

بعيدًا عن الجانب الاجتماعي، فـ"المعريفة" مرض استشرى وصارت توهب لكلّ من هبّ ودبّ، ودون ملفات أو بالأحرى هناك من يأخذ مكان ليس له بل لغيره، أو بعبارة أشمل "أخذ حقّ غيره"، إذ يتفوّق على البعض رغم أن ملفه فارغ من حيث المحتوى من الشهادات أو الخبرات، وهي تحدث و لا يمكن تجاهلها في العديد من دواليب المؤسسات والوظائف.

هذه الحقيقة تراها أستاذة علم الاجتماع سعيدة بنوزة من جامعة تيارت غرب الجزائر مبحثًا اشتغلت عليه في سياق دراساتها العليا، مشدّدة في حديث لـ"الترا جزائر"، بأنه بغضّ النظر عن الأسباب والطرق التي يسلكها البعض إلا أن هناك وظائف ومهن لا يمكن أن تنالها إلا إذا كنت ضليعا فيها، متسائلة:" هل يمكن أن يقود الرجل طائرة بواسطة "المعريفة" وهو يخاف حتى ركوب الدرّاجة؟".

خُبز يومي

يعترف كثيرون بأن هذه الممارسة الاجتماعية " المعريفة" أصبحت "خُبزًا يوميًا في بعض الإدارات والمؤسسات، تضيف الأستاذة بنّوزة، إذ هي " طريق متشعِّب فيه ممرّات خافية، ترسخت في الوعي الجمعي، في المقابل أضحت سببا في قطع رزق أو أخذ مكان شخص لفائدة شخص آخر يملك الأكتاف" كما يقال في اللغة الشعبية الجزائرية، إذ صعد العشرات في سلم الوظيفة الاجتماعية بسبب هذه الوساطات رغم أنهم لم ينالهم تعب التعلم والتجارب.

 إشارة خفيفة رددتها إحدى النساء في المركز البريدي على مستوى " صالومبي" بالعاصمة الجزائرية، بقولها إن المعريفة مكنت العشرات من زيارة البقاع المقدسة، بفضل تدبير أمر جواز سفر الخاص بآداء مناسك الشعيرة الدينية، ودون جهد منهم ولا تسجيل في قائمة ولا انتظار قرعة الإعلان عمّن فاز بتأشيرة الذّهاب إلى زيارة بيت الله الحرام.

تقول إحدى النسوة بمركز البريد المركزي إن المعريفة مكنت العشرات من زيارة البقاع المقدسة، بفضل تدبير أمر جواز سفر الخاص بآداء مناسك الحج

هذه العجوز لم تقل شيئا خطأ بل أجزم الحاضرين ممن تراصوا لنيل معاملاتهم المالية، أن "المعريفة" هي من جعلت الجزائريين يتذكرون، وحال لسانهم يتساءل من يعرِف من؟  ومن يوصلك إلى من يتولى توظيفط؟ إذ انساق الجميع وراء خيط الوساطة لأنّ الذهاب دونها كمن يحفِر أرضًا بحثًا عن الماء بإبرة.