15-أكتوبر-2023
علم الجزائر في مواجهات مع جنود الاحتلال في الضفة الغربية (GETTY)

تَتقاطع الثورات من أجل الحرية والكرامة في كثير من التفاصيل، وإن تباعد السياق التاريخي وتباين النسق الاجتماعي، فإن التقارب في جوهر وروح الثورات يظل يجمع المسارات والمحطات، وتتقاسم الانتفاضات الشعبية ضد الاحتلال والاستعمار لحظات بُطولية وقِصص الكفاح وصِناعة الأبطال.

ومن بين تلك الثورات المجيدة والتي ما تزال محل إعجاب وتقدير، الثورة الجزائرية رفقة الانتفاضة الفلسطينية، ويَعُود هذا التبجيل نتيجة الصمود القائم لعقود طويلة، وتضحيات جسام، واستمالة في المطالبة بالحرية والحقوق، برغم ما بُذِلَ في سبيل القضية من أنفس غالية.

من بين تلك الثورات المجيدة والتي ما تزال محل إعجاب وتقدير الثورة الجزائرية رفقة الانتفاضة الفلسطينية

تعد الفكرة الكولونيالية وإرهاصاتها صانعة الثورات الشعبية وسبب ميلاد الانتفاضات الشعبية وتحررها، وتشبه حالة "الجزائرية التاريخية" الوضع الفلسطيني اليوم، نظرا إلى الفلسفة الاستعمارية التي جمعت فرنسا الاستعمارية أمس والاحتلال الصهيوني اليوم، وهي فلسفة ترتكز على جملة من الممارسات غير الإنسانية، والسلوكيات القمعية، والبطش العسكري،مشبعة بمشاعر العنصرية وكراهية الآخر.

تتشابه فرنسا الاستعمارية والاحتلال الصهيوني في فكرة الاستيطان والتي تعني عملية إسكان واسعة وتغيير تركيبة سكانية في أرض محتلة ومغتصبة، وذلك بهدف التوسع والإعمار والسيطرة، وقد تكون الأسباب متعددة، منها التوسع الاستعماري والعسكري، والهيمنة على الثروات الطبيعية، أو الاستحواذ على الممرات البحرية والطرق التجارية، ومنها أسباب دينية تبشيرية ودوافع أيديولوجيا.

وقد ازدهرت ظاهرة الاستيطان خلال القرنين 19 و20، وعاشت الجزائر إبان تلك الفترة أطماع توسعية من طرف بعض العواصم الأوروبية، اقتصرت في البداية حول الصراع على الممرات التجارية والبحرية، لكن الاستعمار الفرنسي كانت غايته استراتيجية بعيدة الأهداف، وفق مقاربة استعمارية،تشتغل على تقويض قدرات إيالة الجزائر، ومَزاعم نشر التنوير ومحاربة البربرية، ونشر قيم المساواة وقيم الحضارة الغربية،علاوة على تنصير وتبشير المجتمعات الإسلامية.

تتشابه فرنسا الاستعمارية والاحتلال الصهيوني في فكرة الاستيطان والتي تعني عملية إسكان واسعة وتغيير تركيبة سكانية في أرض محتلة ومغتصبة

وكما هو الشأن للاستيطان الإسرائيلي الذي يمارس على الأراضي الفلسطينية، وفق المقاربة الكولونيالية القائمة على عقيدة دينية وهمية "أرض الميعاد"، تغذيها العنصرية والكراهية تجاه المواطن الأصلي الفلسطيني، وتعمل الآلة الصهيونية على تهجير السكان الأصليين وتعمير ساكنة غير أصلية تنتمي إلى الديانة اليهودية.

لا يَكتَفِي الاستعمار والاحتلال على اغتصاب الأرض، بَل يَعمل على استئصال المكون الأصلي والإخفاء القسري للسكان الأصليين، وتطهير الساكنة الأصلية، وطمس هويتها وماضيها ومحو معالم انتماءها.

ومنذ أن وطأت أقدام الاستعمار الفرنسي بالجزائر، شهدت الجزائر حملات عسكرية تم استئصال فيها قبائل وعشائر بأكملها، على غرار عرش قبيلة الزعاطشة، وفي عام 1852 جرى تطهير سكان منطقة الأغواط، ومذبحة الظهرة، وتم إبادة قبيلة العوفية في مدينة الحراش، وحصلت جرائم تطهير عرقي في حق سكان المتيجة، أمثال قبيلة الحجاجطة في منطقة حجوط وتيبازة وغيرها، ومجزرة الثامن ماي 1945 التي راح ضحيتها 45 ألف شهيد.

والاستيطان الإسرائيلي له تاريخ حافل من تهجير السكان الأصليين وارتكاب جرائم الإبادة، فمنذ وعد بلفور يَعمل الاحتلال الإسرائيلي على تطهير الشعب الفلسطيني وتهجيره وإبادته واغتصاب أراضه، على غرار مجزرة حيفا ومجزرة القدس سنتي 1937 1938والعباسية 1947، ومخيم الكرامة 1968، ومجزرة صبرا وشاتيلا، 1982ومجزرة الحرم الإبراهيمي 1994 وسلسلة التواريخ طويلة، ومامُطالبة سكان غزة الانتقال إلى الحدود المصرية إلا صورة من صور التطهير العرقي والديني الحديث.

 

 

شَكليا يبدوا الاستعمار حاملا للقيم التنويرية ومعالم الحضارة الغربية، ورغم أن الغرب مشبع بالقيم العلمانية، غير أن المقاربة الكولونيالية قائمة بشكل أساسي على الصراع الديني والحرب العقائدية.

تجدر الإشارة، هنا،  إلى أن جل المستوطنين والمعمرين الفرنسيين من الأصول الفرنسية من البيض البشرة من شمال فرنسا كانوا مُشبعين بالتعاليم الدينية المسيحية، ولما استقروا بأرض الجزائر، اعتقدوا أنها الأرض الموعودة التي وعد الله بها أتباع المسيح في الإنجيل، ونظرًا إلى خِصبة التربة وغِناها بالموارد المائية، ادّعى هؤلاء المعمرون أنها أرض الحبوب والعسل، وتُعتبر زراعة الكروم زراعة كولونيالية لم يسبق أن تم زراعتها بالأراضي الجزائرية.

كما عمد الفكر الكولونيالي إلى البحث الأنثروبولوجي ودراسة الأصول الرومانية والمسيحية للسكان شمال أفريقيا في محاول إيجاد شرعية تاريخية ودينية لتواجدهم القائم، رغم اغتصابهم للأرض.

من جهتها، تعتبر دولة الاحتلال الصهيونية أقرب إلى حركة دينية قومية متطرفة تنادي بحق اليهود في الاستقرار في فلسطين، وحزب الليكود الإسرائيلي يؤمن بفكرة عقائدية قائمة على الأمة اليهودية وضرورة تجميع أتباع الديانة في الموطن الواحد، واستعادة المجد والدور التاريخي والديني.

وأمام المجازر المرتكبة في حق الفلسطينيين وسكان غزة وبشكل يومي، يقف المعسكر الغربي والنيو الليبرالي بجانب دولة الاحتلال الإسرائيلي رغم معارضة "تل آبيب" لكل المواثيق الدولية ولوائح حقوق الإنسان،ويبرر المجتمع الغربي المجازر وقتل المدنيين ويصف المقاومة بـ "الإرهاب".

تعتبر دولة الاحتلال الصهيونية أقرب إلى حركة دينية قومية متطرفة تنادي بحق اليهود في الاستقرار في فلسطين

القضية الجزائرية أيضا تعرضت إلى تهميش ونكران من العواصم الغربية، لكن السياق التاريخي لحركات التحرر وتفكك منظومة الاستعمارية وتحرر الشعوب، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية وتنشيط العمل الدبلوماسي للجبهة التحرير الوطني جعل القضية الجزائرية تحظى بدعم عربي قوي وتأييد المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي.

عمومًا، تبقى المنظومة الكولونيالية تسلك مسالك الجريمة في حق الشعوب الأصلية، ورغم حملات التطهير والإبادة تبقى الأمم والشعوب صامدة أمام محاولات الزوال والاستئصال، بفعل عزيمة وإرادة أبنائها تتناقل الكفاح عبر الأجيال، وفي الثورة الجزائرية والانتفاضة الفلسطينية عنوان البقاء الأبدي وتمسك بالحياة.