29-نوفمبر-2016

امرأة وولداها يتمشيان قرب مخيم "سمارة" للاجئين في الجزائر (فاروق بعطيش/أ.ف.ب)

في حي "بئر مراد رايس" في قلب العاصمة الجزائرية، أطفال يبدو من وجوههم أنهم لم يذوقوا طعم النوم. فرغم برودة الجو هذه الأيام إلا أنهم يرتدون ألبسة خفيفة ومهترئة. وينتعلون أحذية ممزقة. يتفرق هؤلاء حول طابور السيارات المتوقفة في الشارع الرئيسي بسبب الازدحام. غالبيتهم يحملون بين أيديهم علبًا بلاستيكية فارغة لتجميع النقود. يحاولون استجداء السائقين المتأففين لإعطائهم دنانير معدودة. منهم من يحن قلبه وينزل زجاج النافذة ويقدم لهم المال ومنهم من لا يأبه بحركات استجدائهم البريئة.

يعيش اللاجئون الأفارقة في ظروف إنسانية تعيسة في الجزائر بعد هروبهم من الحرب

"ميغيل؟؟" ، هكذا نادت إحدى السيدات الأفريقيات على الطفل الصغير، الذي أفقده التسكع في الشوارع ابتسامته. إنه ابنها الأكبر، حيث كانت السيدة تجلس أمام مسجد الحي تفترش الأرض وتضع جنبها بعض الأغراض وطفلتها الصغيرة تلعب بالقرب منها، بينما ميغيل لا يزال يتابع سيره نحو السيارات المتوقفة لعله يحصّل بعض النقود.

هي صورة مجتزئة عن الحياة اليومية لبعض المهاجرين غير الشرعيين الأفارقة في الجزائر. أغلبهم قدموا من النيجر ومالي. يتوزعون عبر عدد من المخيمات التي خصصتها لهم السلطات الجزائرية في الولايات الكبرى، سواء في مدينة قسنطينة أو سطيف أو وهران في شمال الجزائر أو في تمنراست في أقصى الجنوب. البعض منهم توجه للبحث عن لقمة العيش وكل بطريقته الخاصة، إما التسول أو العمل في المزارع والحقول أو مواقع تجهيز وبناء السكنات والمنشآت.

من أجل الأمن قطع الآلاف مئات الكيلومترات، في رحلات يومية يدخلون فيها الحدود الجزائرية في مناطق "جانت" و"عين قزام" و"برج باجي مختار" و"تمنراست". فالصحراء واسعة وإمكانية التوغل فيها متاحة لكثيرين. وغالبًا ما يتم توقيفهم من قبل حراس الحدود، لكن هروبهم "كان مبررًا ولو كان غير شرعي"، وفق تصريحات متفرقة لهؤلاء المهاجرين السريين لـ"ألترا صوت" ، واللجوء إلى أطراف وتخوم الجزائر كان سبيلهم الوحيد بعد أن أفقدتهم الحرب طرقهم الآمنة.

أفق مجهول في الجزائر. الكثيرون منهم يحاولون تسلق المخاطر والمجازفة من أجل الوصول إلى الجنة وراء الساحل الجزائري، حسب تصريح أحد عناصر الأمن الجزائري الذي رفض الكشف عن هويته لـ "ألترا صوت". فيوميًا تقبض السلطات الجزائرية على المتسللين في الحدود الجزائرية المالية، ومن جنسيات أفريقية مختلفة، سواء في الجنوب أو في الساحل الجزائري، برفقة مجموعات الهجرة السرية نحو أوروبا.

الكثيرون يحلمون بالأمن والاستقرار بعد أن قطعوا العشرات من الكيلومترات للهروب من حالة النزاع في بلدانهم الأصلية. هربوا من الفقر والجوع ليحلموا في الجزائر بالأمن والأمان. فيما يراها البعض (أي الجزائر) محطة عبور من القارة السمراء نحو أوروبا عبر زوارق الموت. هي شهادة أحد عناصر مراقبة مخيم الأفارقة بالعاصمة الجزائرية، نورالدين زيتوني في حديثه لـ"ألترا صوت".

يقول نورالدين، إن "العشرات من الأفارقة هربوا من مالي بسبب الحرب والأحداث العنيفة التي تعرفها المنطقة بحثًا عن الأمن والعمل. وكثيرون منهم تمسكوا بحبل الأمل للهروب وراء البحر. لكنهم اليوم ردعوا بعد أن تم إحباط محاولة تسللهم عبر شاطئ عنابة شرق العاصمة الجزائرية برفقة شباب جزائريين في قوارب مطاطية".

من هجرة عير شرعية إلى أخرى، يواصل المتحدث كلامه، مضيفًا بأن "العشرات من الأفارقة يغامرون بالانتقال من جنوب الجزائر إلى شمالها في رحلة العذاب"، موضحًا بأنهم يقطعون أكثر من ألفي كيلومتر بين الحدود الجزائرية الجنوبية للوصول إلى مدن الشمال، ولكنها رحلة شاقة. خصوصًا بعد تمكنهم من الهروب من مراكز المراقبة والتخلص من قبضة الأمن عبر تلك المدن. من جانت ثم ولاية غرداية ومنها نحو منطقة المنيعة أو الجلفة ومنها اتجاه " المدية " ثم " البليدة" ليصلوا إلى العاصمة الجزائرية".

على هامش الحياة اليومية يتعرض عديد الأفارقة من المهاجرين إلى عملية استغلال من قبل أصحاب المقاولات والبناء. ويتم استغلالهم في بعض مواقع تجهيز السكنات والبناءات عبر مختلف المدن الجزائرية والقيام بعمل مضن لساعات طويلة في حمل وسائل البناء ونقل الإسمنت والرمل وغيرها من الأشغال الشاقة. حيث يتم استخدامهم بـ"أجرة بسيطة حسب ساعات العمل"، على ما يقول أديبولا (29 سنة) لـ"ألترا صوت"، والذي يعمل في موقع لإنشاء عمارات بقلب مدينة "البليدة" ويبيت في الموقع، لكنه يشعر بعملية استغلال كبرى من رب العمل، لكنه لم يجد بدًا سوى القبول من أجل الحصول على المال. الظاهر أن هذا الشاب القادم من النيجر يحلم بالهروب نحو أوروبا عبر الجزائر. حيث اعتبر وجوده في الجزائر "مؤقتًا"، على حدّ تعبيره.

يقول الباحث في علم الاجتماع مراد لعظايمية في مقابلة مع "ألترا صوت"، إن "غالبية اللاجئين هربوا من جحيم الحرب والفقر ليجدوا أنفسهم يواجهون مشاكل من نوع آخر دون وثائق ولا هوية"، مشيرًا إلى أن "الأعداد الهائلة من الأفارقة، تم إلقاء القبض عليهم في إطار تفكيك مجموعات المتاجرة بالمخدرات والعملات المزورة، وهذا بحسب الأرقام التي تقدمها السلطات الأمنية الجزائرية".

ويتخذ الآلاف منهم مركز تجميع المهاجرين الأفارقة ملجأهم بعد أن فشلت كل محاولاتهم في الهروب من الرقابة الأمنية، فضلًا عن تمكينهم من مختلف الوسائل للعيش كالأكل والملبس والمرقد أيضًا، بحسب تصريحات رئيسة الهلال الأحمر الجزائري سعيدة بن حبيلس. وقد كشفت لـ"ألترا صوت" أن "الحكومة الجزائرية هيأت العديد من المراكز لتجميع المهاجرين غير الشرعيين الأفارقة وتكفلت بهم ووفرت لهم الرعاية الصحية قبل ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية".

وأضافت رئيسة الهلال الأحمر أن النيجر ومالي طالبت من الجزائر ترحيل أكثر من 17 ألف من رعاياها، وهذا بالتنسيق بين السلطات في هذه البلدان، لافتة إلى "تخوف الجزائر وكل الدول المعنية من استغلال المهاجرين في إطار الجماعات المسلحة وجرهم في عمليات إرهابية وتهريب الأسلحة والمخدرات".

يتعرض المهاجرون الأفارقة في الجزائر للاستغلال من قبل أرباب العمل، فيشغلونهم بأجور زهيدة ولساعات طويلة

من جهتها، انتقدت بعض المنظمات الحقوقية أوضاع اللاجئين الأفارقة في الجزائر، حيث يشير الناشط الحقوقي المحامي جلال بن صافي في تصريح لـ"ألترا صوت" إلى وجود "تمييز" في حقوق هؤلاء المهاجرين، وعزا ذلك إلى "انعدام قانون ينظم تواجدهم بالجزائر وعدم تمتعهم بحقوق كأي مواطن جزائري". ولفت إلى أن الجزائر وقعت على الاتفاقية الدولية للاجئين سنة 1951 لكن لا توجد إلى حد الآن آلية قانونية لتنفيذها على الأرض".

ونشرت منظمة العفو الدولية إحصاءات غير رسمية في الجزائر تفيد بأن عدد المهاجرين الأفارقة في الجزائر يتراوح ما بين 30 ألف إلى 100 ألف لاجئ أفريقي، مشيرة في تقاريرها إلى ما وصفته بـ"المعاملات غير الإنسانية" في حق هؤلاء اللاجئين أو النازحين من عمق الأزمات الأمنية والحروب والتناحر القبلي في تلك الدول.

تقول الباحثة في شؤون اللاجئين في جامعة وهران نورية ضيف، في مقابلة مع "ألترا صوت"، إن "لا أحد منهم اختار حاضره، ولا أحد اختار أن يترك مكان ولادته وأهله"، موضحة أن "الآلاف من هؤلاء المهاجرين ضحايا من الدرجة الأولى حيث هربوا من نيران الحروب والنزاعات المسلحة"، ومشيرة إلى أن "الحرب لا تترك أمامهم خيارات حيث تركوا وراءهم كل شيء بحثًا عن الأمن"، ومشددة على ضرورة حسن معاملتهم.

بعيدًا عن حسابات السياسة والواقع الصعب، الذي يعيشه المهاجرون الأفارقة في الجزائر، يشهد المجتمع الجزائري مبادرات من أجل مساعدتهم على استعادة بريق الحياة، كالمبادرة التي أطلقها مجموعة من الشباب في مدينة تيزي وزو وسط الجزائر، لتعليم الأطفال من أبناء المهاجرين الأفارقة. مبادرة يقول عنها يونس علي سليمان، أحد الفاعلين فيها، إنها "صوت الأمل في عالم موحش".