14-ديسمبر-2019

تحوّل مجلس المحاسبة في الجزائر إلى غرفة للتسجيل (تصوير: رياض كرامدي/أ.ف.ب)

في فيلم "القطط" للفنان الراحل الحاج عبد الرحمن، تتعدّد حالات السرقة بشكل مرعب، فيضطر التلفزيون العمومي لمناقشة الموضوع ويستضيف المفتّش الطاهر، يسأل الصحافي: "في رأيك، ما سرّ انتشار السرقة بهذا الشكل؟"، فيُجيب المفتش بكل عفوية وبلهجته المميزة: "كثرت السريقات بزّاف، لخاطر كاين السرّاقين بزّاف".

مع تعدّد حالات النهب المنظم، بقي الناهبون خارج المساءلة في ظلّ غياب الإطار القانوني لمساءلتهم

هو السؤال الذي أصبح متداولًا في الجزائر بشكلٍ أو بآخر، منذ أن فُتح ملف نهب المال العام، واكتشف الجميع من خلالها الأرقام "الفلكية" المنهوبة وكثرة المتّهمين من رجال أعمال ورجال سياسة إلى أعلى المسؤولين في هرم السلطة.

اقرأ/ي أيضًا: اعتقال أغنى رجل في الجزائر.. عدالة انتقالية أم انتقائية؟

ويتحوّل جواب المفتّش الطاهر إلى سؤال كبير: ترى ما سرّ تزايد عدد السارقين إلى هذا الحد؟ هل الأمر يتعلّق بفساد الضمائر؟ وبمجرد "عصابة" محدودة العدد مهما كان كبيرًا؟ وأن الحلّ يكمن في محاكمتها وتسليط أقصى العقوبات ضدّها؟ أم الأمر يتعلّق بشجرة كبيرة تُخفي عن الأنظار غابة لها أوّل وليس لها آخر؟

لقد كان أحمد أويحيى، يُرافع أثناء محاكمته باستعمال القانون، وهو متأكّد أن براءته تكمن في القانون نفسه الذي يبدو أنه السرّ وراء النهب الممنهج للمال العام وكثرة "السرّاقين"، وطالب بمحاكمته تحت عنوان المادة 177 من الدستور الحالي، التي تنصّ على تنصيب "محكمة عليا للدولة" لمحاكمة رئيس الجمهورية والوزير الأوّل بتهم الجنح والجنايات والخيانة العظمى.

ولو استجاب القاضي لطلب أويحيى، المؤكّد أنه سيحصل على البراءة، لسبب بسيط هو أن المحكمة العليا للدولة التي نصّ عليها الدستور بقيت مجرّد فكرة تنتظر القانون المنظم لها الذي قد يصدر مستقبلًا، وقد لا يصدر ليأتي دستور آخر بفكرة أخرى لا تجد لها طريقًا للتجسيد.

يبدو أن القوانين جاءت في صالح ناهبي المال العام لا لردعهم، ونحن نرى أن قانون "مكافحة الفساد" الذي صدر عام 2006، اعتبر بعض الجرائم التي يصنّفها قانون العقوبات جنايات، هي مجرّد جنح، لينال المسؤولون أخّف العقوبات وفق قاعدة "القاعدة القانونية الخاصّة تقيّد القاعدة القانونية العامّة".

وما لا يعلمه البعض أن للمسؤولين الجزائريين ولع قديم بنهب المال العام، ولعلّ بداية استقلال الجزائر سنة 1962 مرتبطة بفضيحة نهب "الصندوق الوطني للتضامن"، وهو خلاصة تبّرعات شعبية من أموال ومجوهرات لنساء بسيطات جُمعت من أجل بناء خزينة عمومية للدولة الجديدة، لكنها اختفت وفتحت عهدًا جديدًا مع الفساد ما تزال أطواره مستمرّة إلى الآن.

ومع تعدّد حالات النهب المنظم، بقي الناهبون خارج المساءلة في ظلّ غياب الإطار القانوني لمساءلتهم. مع بدايات عهد الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد (1979-1992)، اضطر سنة 1980 إلى إجراء تعديل على دستور 1976 وأضيفت بمقتضاه مادّة وحيدة تتكلّم عن "مجلس المحاسبة" المتخصّصة في المراقبة البعدية للحاسبات المتعلّقة بالميزانية والخزينة، مع محاسبة المتسبّبين في سوء التسيير.

وبموجب القانون الذي انبثق عن تعديل دستور 1980، تأسّس مجلس المحاسبة وكان أوّل ضحاياه وزير الخارجية السابق عبد العزيز بوتفليقة المتّهم بسرقة وتحويل المال العام، ومن عجائب الأقدار أن المتّهم سيتحوّل إلى رئيس للجمهورية بعد ذلك بسنين، ليتعامل طيلة عشرين سنة من حكمه مع المجلس بما يُشبه "العقدة النفسية".

لقد تحوّل "مجلس المحاسبة" طيلة السنوات الماضية إلى مجرّد غرفة للتسجيل، ومع نقص الإمكانيات التي يعمل بها فهو لا يتوفّر على أيّة آليات للرقابة، حتى ولو اكتشف فسادًا بالملايير فهو مضطر إلى إرسال تقارير إلى البرلمان والحكومة ورئاسة الجمهورية، يأخذها الجميع على "سبيل الاستئناس" وليس لها أيّة قيمة إلزامية.

يبقى المال العام في الجزائر عرضة للسرقة، حتى ولو أعدمنا جميع المسؤولين الحالين

وفي ظلّ الشروط نفسها التي أنجبت الكثير من السارقين، يبقى المال العام في الجزائر عرضة للسرقة، حتى ولو أعدمنا جميع المسؤولين الحالين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 المال السياسي بعبع الانتخابات البرلمانية الجزائرية 

الانتخابات الجزائرية.. السياسة في وحل المال الفاسد