بعد عام من المسيرات الشعبية الرافضة لكل رموز النظام السابق، والمطالبة بتغيير نظام الحكم والذهاب نحو مرحلة انتقالية تؤسّس لجمهورية جديدة، مازال الحراك الشعبي مستمرًّا ومتمسّكًا بمطالبه، رغم إسقاطه لعدّة وزراء ورجال أعمال ومسؤولين أمنيين تورّطوا في قضايا فساد، على مدار عشرين سنة الماضية.
الحرب على الفساد بدأت بعد القبض على رجل الأعمال علي حداد، الرئيس السابق لمنتدى رؤساء المؤسّسات
حصيلة الحراك الشعبي بعد عام كامل، انعكست مظاهرها على كلّ مجالات الحياة، خاصّة المجال الاقتصادي، حيث مازال يمرّ بمرحلة صعبة رغم الإجراءات التي اتخذت ضدّ رجال الأعمال المستفيدين من فوضى المنافسة التجارية، التي كان يحرص نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، على تطبيقها لنهب ثروات البلاد.
اقرأ/ي أيضًا: نشطاء يقرّرون عقد مؤتمرٍ جامع للحراك الشعبي في ذكراه الأولى
بعد عامٍ من حراك الجزائر، يتساءل متابعون عن الوضع الاقتصادي في البلاد، وإن كانت حملة مكافحة الفساد، بدأت تعطي ثمارها؟ وهل استطاعت هذه الحملة أن توقف انتشار "ورم" الفساد، الذي مسّ عديد المؤسسات العمومية في السنوات الماضية؟
فساد قياسي
لم يكن يخفى على أحد، أن نظام بوتفليقة استطاع أن يكون بطلًا في مهمة وحيدة؛ وهي نهب الأموال العمومية تحت مسمّيات مختلفة، مثل "إنعاش الاقتصاد" و"دعم النمو" و"صناديق الجنوب والهضاب"، وغيرها من الصفقات التي استعملت لمنح الأموال العمومية بطرق غامضة لمحيط الرئيس من رجال أعمال ومسؤولين في السلطة، ممن استأثروا لأنفسهم بإدارة الحياة العامة السياسية والاقتصادية، ولكن لا أحد أيضًا كان يتوقّع أن يكون حجم هذا الفساد، رغم استشرائه في جميع القطاعات والمستويات، بتلك الأرقام التي كشفت عنها التحقيقات الأوّلية، ما يعني أن ما هو آت أكبر بكثير.
الحرب على الفساد في الجزائر، بدأت بعد القبض على رجل الأعمال علي حداد، الرئيس السابق لمنتدى رؤساء المؤسّسات، بولاية الطارف الحدودية مع تونس، وهو يهم بالفرار نحو الجارة الشرقية بجواز سفر بريطاني نهاية شهر آذار/مارس 2019.
لم يكن علي حداد، مجرّد رجل أعمال عادي في نظام بوتفليقة، فقد أداة الزمرة الحاكمة، لاحتكار الصفقات العمومية وشركات المناولة التي أخضعت أكثر من 4000 شركة أخرى لسيطرتها، والأكل من ذلك كان حداد رقمًا صعبًا في "الكارتل المالي" المقرّب من شقيق الرئيس، و"الوجه القبيح" للاستثمار الخاصّ ورجال الأعمال في البلاد، كونه استطاع في ظرف وجيز أن يتحوّل من مقاول بسيط، إلى رجل أعمال تجاوزت ثروته المليار ونصف دولار أميركي، بحسب ما ورد في جلسات المحاكمة.
مثل علي حداد القابع في سجن الحراش بالعاصمة، والمحكوم عليه بثماني سنوات حبسا نافذًا في قضية التمويل الخفيّ للحملة الانتخابية لبوتفليقة، الصورة الكاملة لاجتياح المال الفاسد لمجال السياسة، من خلال تأثيره في صنع القرار السياسي، وهو المشهد الذي ظهر جليًا في وقوفه وراء إقالة الرئيس الحالي عبد المجيد تبون، من الوزارة الأولى سنة 2017 بعد خلاف بينهما.
بعد القبض على علي حداد، توالت الحرب على رجال الأعمال الفاسدين، بدءًا بالملياردير إيسعد ربراب، الذي أدانه القضاء بتهمة تضخيم الفواتير، وصولًا إلى الإخوة بن عمر، الذين أودعوا الحبس المؤقت مؤخّرًا، مرورًا بطحكوت والإخوة كونيناف وبن حمادي وعولمي ومعزوز وغيرهم.
تحقيقات متواصلة
لحد اليوم لا يعلم الحجم الكلي للفساد الاقتصادي الذي مسّ البلاد في عهد بوتفليقة، بالنظر إلى أن التحقيقات لا تزال جارية في أغلب القضايا محلّ المتابعة من طرف الجهات المختصّة، لكن اقتصاديون قدروها على الأقل بـ 200 مليار دولار.
بعد كلّ هذه الضجّة التي أحدثتها السلطة، مازال السؤال مطروحًا اليوم، بعد عامٍ من انطلاق الشعبي، وهو هل استطاعت عملية إيداع رجال الأعمال الفاسدين أن تستعيد الأموال الاستحواذ عليها وتهريبها إلى الخارج، وهل ستنتهي مثل هذه الممارسات مستقبلًا، ويتخلّص النظام من فكرة تأسيس أوليغراشيات مالية أخرى، تتوغّل في نظام الحكم، ويتوقّف احتكار الصفقات العمومية؟
بالنسبة للصحافي المختصّ في الشأن الاقتصادي، نبيل سليماني، فإنه بعد عام من حراك شعبي سلمي تاريخي، أتى على نظام فاسد طغى وتجبر سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، تسير الجزائر اليوم، نحو بعض التغيير الذي قد يُخرجها من مأزق اقتصادي عشش لعقود من الزمن، مثلما يقول في حديث إلى "الترا جزائر".
يستدرك سلماني، تفاؤله بتخطي الاقتصادي الجزائري، المرحلة الصعبة التي يمرّ بها، ويقول إنه "لا يمكننا الجزم بالقضاء التام والكامل على الفساد، فالأخير يعدّ أخطبوطًا استشرى في كل مناحي الحياة الاقتصادية في الجزائر لعقدين كاملين، ولا يمكن القضاء عليه في عام أو عامين، إلا أنّ الإجراءات المتخذة والمحاكمات المتتالية، سارت وستسير باقتصاد الجزائر نحو الأقلّ فسادًا إن صحّ التعبير".
من جهته، يوضّح فارس مسدور، أستاذ الاقتصاد بجامعة سعد دحلب بالبليدة في حديث إلى "الترا جزائر"، أن ما كُشف على مستوى المحاكم ما هو إلا جانب صغيرٌ من الفساد الذي لازال موجودًا في المجال الجمركي والجبائي والفلاحي، وخاصّة على مستوى الإدارة.
ضريبة التغيير
عقب التحقيقات التي طالت كبرى الشركات الخاصّة، المملوكة لرجال أعمال يقبعون في سجن الحراش بالعاصمة اليوم، قامت السلطات بتجميد حسابات مؤسّساتهم، قبل أن تكلّف متصرفين ماليين لتسيير هذه المؤسّسات التي توظف آلاف العمال.
وبعد أن فقدت هذه المؤسّسات، امتياز الحصول على قروض وصفقات بمختلف الطرق، سواءً كانت قانونية أو لا، لجأت إلى الحلّ الأسهل للحفاظ على عائداتها المالية، وهي تسريح العمال والتخلّي عن عدّة مناصب مالية، وهو ما أثر على الحالة الاجتماعية في البلاد، كون العملية مسّت مختلف أجزاء السلسلة الاقتصادية، بدءًا من المستورد والمنتج وانتهاء بالبائع البسيط.
غير أن فارس مسدور، يرفض في حديثه مع "الترا جزائر" تحميل الوضع الاقتصادي المتهالك لـ "الحراك الشعبي"، بالنظر إلى أنه "على العكس تمامًا، فإن الحراك أوقف استنزاف الخزينة العمومية، وأن ما خسرته الجزائر خلال هذا العام من الحراك، لا يُمكن مقارنته مع ما كانت تخسره سنويًا في ظلّ حكم الرئيس السابق".
واعتبر مسدور، تخلّي المؤسّسات عن بعض مناصب الشغل، خلال هذه المرحلة التي تعيشها الجزائر، أمرًا عاديًا، بالنظر إلى ارتباط الجانب السياسي بالاقتصادي.
بدوره يرفض محدّثنا نبيل سليماني، الصحافي المختصّ في الشأن الاقتصادي "تحميل الحراك الشعبي السلمي، مسؤولية ما عاشته الكثير من المؤسّسات الاقتصادية في الجزائر، من مصاعب جمّة خلال هذه السنة، بل كلّ اللوم يقع على السلطة القائمة التي لابدّ عليها أن تتحرك حالا لتسوية وضعية عديد المؤسّسات والشركات الاقتصادية، حتى لا نصل إلى ثورة اجتماعية قد تعود بالبلاد إلى نقطة الصفر".
وعود جديدة
في مقابل ذلك، يدّعي الرئيس عبد المجيد تبون في كلّ خطاباته، أنه سيعمل على بناء اقتصاد جديد، يُحدث القطيعة مع الممارسات السابقة، ويُنهي تدخل المال في السياسة الذي كان من أبرز ضحاياه، مع دعم الاستثمار الداخلي والأجنبي الحقيقيين، حسب ما يفهم من مضمون كلامه المتكرّر.
هنا، يعتقد الصحافي نبيل سليماني، أن تحقيق ذلك ممكن، مبرّرًا ذلك بقوله أنّ "للجزائر مقدرات وإمكانات بشرية ومادية كبيرة، لو تم استغلالها على أحسن وجه لأقلعت اقتصاديًا".
غير أنه يُلفت في الوقت ذاته، في حديثه مع "الترا جزائر"، أن "هذا لن يتحقّق إلا بإرادة سياسية حقّة، ونهج اقتصادي علميٍّ قائم بذاته، واستغلال أمثل للموارد البشرية التي تزخر بها البلاد".
الخبير الاقتصادي فارس مسدور، لا يُبدي تفاؤلًا كبيرًا بتحقيق إقلاع اقتصادي في الوقت الراهن
لكن الخبير الاقتصادي فارس مسدور، لا يبدي حتى اليوم تفاؤلًا كبيرًا بتحقيق إقلاع اقتصادي في الوقت الراهن، بالنظر إلى أن مخطّط عمل حكومة الوزير الأوّل عبد العزيز جرّاد، مبنيٌّ على نظرة قصيرة المدى، وليس على إستراتيجية اقتصادية واسعة، لأنها مازالت إلى اليوم، حسبه، تبني خططها على عائدات المحروقات مثل ما يبدو بفتحها في هذا الوقت ملفّ الغاز الصخري، وفق ما أوضح المتحدّث لـ "الترا جزائر".
اقرأ/ي أيضًا: