26-ديسمبر-2019

تأتي وفاة قائد الأركان أيامًا قليلة بعد الرئاسيات الجزائرية (تصوير: بلال بن سالم/Getty)

الموت ظاهرة طبيعية، وهو من المسائل الغيبية التي لا يُمكن لأيّ بشر مهما أوتي من العلم أن يفتي فيها، ومع ذلك، قد يكون الموت في سياقات خاصّة حدثًا سياسيًا. وفي الجزائر تحديدًا، هناك من يتدخّل في وظيفة ملاك الموت!

لقد سُيّس الحداد وصار من الصعب للمرء أن يعبّر عنه دون أن يقع في تهمة سياسية جاهزة

وفاة القايد أحمد صالح (رحمة الله عليه)، تكشف عن أنّ الموت في الجزائر هو أيضًا حدث سياسي، يثير حوله اللغط بين أطراف متصارعة، وقد بلغ بها الأمر إلى التراشق بالشتائم بين من ترحّم على الرجل واعتبره بطلًا، وبين من رفض تقديم كلمات العزاء لأنّ الرجل محسوب على العصابة، ويستحق أن يموت! والحقيقة أنّ نقاشًا كهذا هو انحطاط للطرفين معًا، لأنّ موت شخص ما، وليكن من يكون، لا يحتاج إلى هيجان عاطفي مبالغ فيه، ينتهي إلى توزيع التهم بين الطرفين. والفائدة؟ لا شيء.

اقرأ/ي أيضًا: هل نحن في حاجة إلى دستور جديد؟

لقد كتبتُ في مقال سابق (السياسة في مأزق) بأنّ السياسة في الجزائر قد لوّثت العقول، وأنّ الوعي السياسي الذي يتفاخر به الكثيرون ليس إلا نكوص نحو التعبيرات البدائية، التي لا تحمل من السياسة إلاّ شكلها الخارجي فقط. وقد ساهمت وسائط التواصل الاجتماعي في تسطيح الوعي أكثر.

لقد سُيّس الحداد، وصار من الصعب للمرء أن يعبّر عنه دون أن يقع في تهمة سياسية جاهزة. فالذي يحزن يُتّهم بالولاء للعصابة، والذي امتنع عن الحزن يوصف بعديم الوطنية. هل رأيتهم حجم الخسارة التي مُني بها الجميع، لمّا أصبح المرء متهمًا في كل الحالات؟

النقطة الثانية التي أريد الخوض فيها، هي بعض الأصوات التي بدأت تشكّك في الوفاة الطبيعية للقائد أحمد صالح، مستندين إلى حقيقة أنّ الرجل قد تعرّض للتصفية! لأقرأ اليوم أنّ جريدة فرنسية منشقة (ميديا بارت)، قد كتبت عن الموضوع، متحدثة عن مصدر موثوق سرّب هذه المعلومة. الأطروحة نفسها تداولتها بعض قنوات اليوتيوب التي تحدث أصحابها عن نظرية التصفية.

يجب الآن التركيز، لا على المعلومة في ذاتها، بل على ردود الأفعال التي يُمكن لها أن تحدثها في المتابعين، وهنا مكمن الخطورة. أتساءل: ما الهدف من الترويج لمثل هذه الفرضيات؟

كنتُ في متجر لاقتناء بعض المستلزمات، ووجدتُ بأنّ صاحبه كان يخوض في نقاش مع زبونين حول وفاة القايد صالح. اقتربتُ منهم، ولما رآني صاحب المتجر وهو شاب يعرفني جيدًا، توجه إليَّ بالسؤال، راجيًا مني أن أجيب عن الانشغال الذي كان هو مدار مناقشتهم: ما رأيك في وفاة القايد صالح؟ صراحة وجدتُ أنّ السؤال في غير محلّه، خاصّة داخل متجر لبيع المواد الغذائية. كان الرجلان الواقفان أمامي ينتظران أن أجيب عن سؤال لم أكن مهيئًا أصلًا للإجابة عنه. فقلت له: لا أجد ما سأقوله لك باستثناء: يرحمه الله. هذا ما يمكن أن أقوله لك الآن.

لكن ما استفزّني هو أحد الواقفين، حيث سمعته يهمس ويقول هذا جاء ليشتري ما يأكله وهذا هو الأساسي لديه. الحقيقة أن كلامه قد استفزّني، ولو كان يعرفني لما قال كلامًا مثل هذا، ومع ذلك نظرت إليه وقلت له: يجب أن تعرف شيئًا أساسيًا في السياسة. إذا كنت لا تملك مصدرًا موثوقًا للمعلومات التي تضخ في مخك فلا تعتبر أنك تمارس السياسة، لأنّ كلامك لن يعدو أن يكون مجرّد تأويلات واجتهادات شخصية، أما الحقيقة فهي شيء آخر.

أنت تعتقد بأن الجلوس خلف الحاسوب ليلًا داخل غرفتك وقد دثرت نفسك بغطاء دافئ، ثم تحشو مخّك بما يلقى إليك في الفايسبوك هو ما سيجعلك سياسيًا محنكًا، إذا كنت تظنّ ذلك فأنت مخطئ. الرجل لم يتمالك كلماتي، وغادر المكان. كلّ هذا بسبب أنهم يريدون أن أسمعهم ما يريدون.

أصبح الناس مهوسين بالأخبار دون تمحيصها أو البتّ في صحتها، لهذا ينقادون خلف الإشاعات بسهولة تامّة

ما أريد أن أقوله من خلال هذه الحادثة، هو أنّ الناس الآن أصبحت مهوسة بالأخبار دون تمحيصها أو البتّ في صحتها، لهذا ينقادون خلف الإشاعات بسهولة تامّة، مثل القطعان التي تُقاد إلى المسالخ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رحيل قايد صالح وتعيين سعيد شنقريحة قائدًا للأركان بالنيابة

قايد صالح يزكّي قانون المحروقات ويتوقّع مشاركة قويّة في الرئاسيات