افتتح متحف الحضارات الأوروبية والمتوسطية "Mucem" الواقع بمدينة مرسيليا جنوب فرنسا، معرضه الصيفي الكبير، مُبرزًا جوانب من حياة وتاريخ الأمير عبد القادر الجزائري ومحتفيًا بنضاله الإنساني، إذ يأتي هذا المعرض في سياق عرض الذاكرة التاريخية الفرنسية الجزائرية المشتركة، ومحاولًا إبراز الجوانب الإنسانية من التاريخ الكولونيالي غير المعترف به.
الصحافي بيار دوم: معرض مرسيليا أراد أن يصور الأمير عبد القادر مقاتلًا شرسًا استسلم في نهاية المطاف وبات محبًا لفرنسا
لقي المعرض إشادة من طرف الفاعلين في الحقل التاريخي والذاكراتي ومن مختلف المشاركين والصحافيي، غير أن الباحث والكاتب الفرنسي بيار دوم، كان له رأي مخالفًا حول مقاربة المعرض وأهدافه والرسائل والغايات، مشككًا في الوقت نفسه في بعض التأويلات والقراءات حول شخصية الأمير عبد القادر الجزائري ومنتقدًا لبعض الآراء حوله.
من هو بيار دوم؟
بيار دوم صحفي وكاتب فرنسي (1966)، متخصص في المسائل التاريخية المرتبطة بالكولونيالية وما بعد الكولونيالية، وباحث في التاريخ المشترك بين الشعوب المٌستَعمَرة والمٌستعمرة، من بين أهم أعماله، تحقيق وبحث أنجزه حول العمالة الفيتنامية في فرنسا فترة 1939-1952، حيث شمل التحقيق حول 20 ألف فيتنامي، اشتغلوا في صناعة العتاد الحربي والعسكري بفرنسا، في ظروف إنسانية قاسية وصعبة وكارثية، وجاء في الدراسة أن العمال الفيتامينين ولسنوات أجبروا على العمل في ظروف شاقة جدًا، دون أن يتقاضوا أي مقابل مادي، زيادة على ظروف معيشتهم في الملاجئ للعمالة.
كما اختص بيار دوم في التاريخ المشترك بين الجزائر وفرنسا، في السياق، أصدر سنة 2012 أول كتاب له بعنوان "لا حقيبة ولا تابوت" تناول فيه واقع حياة الأقدام السوداء ما بعد الاستقلال. وفي 2015 صدر له كتاب الطابو "الأخير... الحركى الذين لم يغادروا الجزائر بعد الاستقلال"، تناول فيها شهادات لحركى فضلوا البقاء في الجزائر ما بعد الاستقلال، وهي شهادات حملت قراءة معاكسة لما هو متداول في التاريخ الاستعماري، على أن الحركى تعرضوا إلى الانتقام والقتل والتصفية الجسدية.
ما وراء جمالية المعرض
في مقال مطول نشر على موقع ميديا بارات الإخباري الفرنسي، أثنى في البداية الباحث بيار دوم على احترافية المعرض، الذي سلط الأضواء على شخصية الأمير عبد القادر من خلال إبراز اللوحات الفنية والسيوف والمخطوطات الأصلية والرسمية.
في المقابل، يكشف لنا الكاتب الفرنسي أنه بعد الفحص الدقيق والرؤية النقدية للمعرض، يتجلى أن وراء المعرض رسالة تتمثل في إبراز قصة مقاتل شرس انتهى به المطاف إلى الاستسلام وبات محبًا لفرنسا، بعد عرض موجز عن حياة ونضال الأمير عبد القادر، وظروف سجنه القاسية (الرطوبة، سوء التغذية، البرد) في "باو" أولًا ونقله إلى قلعة "أمبواز"، رفقة أفراد عائلته (مائة شخص).
عن خلفيات المعرض يقول الباحث الفرنسي أن المعرض حاول أن يُقلل من عنف الجيش الفرنسي في حق الجزائريين المدنيين المؤيدين لأمير عبد القادر، والتي مارسها الجنرالات كافينياك وبيليسير خلال عامي ( 1844-.1845)، مضيفًا أنه وُثّقت شهادات مزورة وعلى نطاق واسع عن ظروف إقامة ومعيشة الأمير عبد القادر بفرنسا.
وأفاد أن الأرشيف الفرنسي ذكر أن من بين 94 شخصًا شكلوا بلاط الأمير في قلعة أمبواز، توفي 25 شخصًا هناك، بما في ذلك إحدى زوجاته واثنان من أبنائه، وبعد زيارة لويس بونابرت والاطلاع على ظروف سجنه القاسية أمر بإطلاق سراح الأمير وأتابعه، ونفيه إلى تركيا سنة 1852، بعدها انتقل الأمير إلى سوريا.
من جانبه، ينتقد بيار دوم القراءة التي قدمت للوحة الكبيرة للفنان فرانسو تيوفيل اتييان جيد" " François-Théophile-Etienne Gide "، اللوحة Les chefs arabes présentés au prince président (1852)، التي تُقدم الأمير عبد القادر مُنحنيًا أمام الأمير الفرنسي، ويقبل يده بتواضع شاكرًا له كرمه وقرار إطلاق سراحه.
يستنكر دوم هذا القراءة السطحية والمختزلة، دون النظر إلى التفاصيل وسياقات اللوحة، متسائلًا "وكأن من الطبيعي أن يكون هذا القائد المتمرد، والمسجون بلا داع، الذي رأى ربع عائلته واتباعه يموتون من الجوع والمرض في غرف التجميد في قلعة أمبواز، بما في ذلك الآلاف من أنصاره "دفنوا" بأمر من الجنرالات الفرنسيين"، يقرر تأجيل مغادرته إلى الخارج وتقبيل يد رئيس دولة معادية.
ويكشف بيار دوم أن المعرض تعمق في رسم صورة نمطية عن الأمير، تظهره في ثوب المسالم والمحب لقيم فرنسا والحداثة، من خلال عرض مراسلات بين الأمير وشخصيات ثقافية فرنسية، وإشادته على مشروع حفر قناة السويس الذي قال عنها "أنها تربط شعوب الشرق بشعوب الغرب"
كما عاتب دوم الصورة التي أراد المعرض الترويج لها عن الأمير عبد القادر، والمتمثلة في كون الأمير كان رجلًا متدينًا ومتصوف المعتقد، فهذه الصورة، حسبه، تعزز في المخيال الغربي أنه الأمير عبد القادر كان رجلا مسلمًا مسالمًا، لين وطيب الطباع، ومتسامحًا وليس عدوانيًا.
في السياق، يضعنا مؤلف "الطابو الأخير" أمام مقارنة بين أهداف المعرض، والنصب التذاكري الذي نصبه الحاكم العام الفرنسي سنة 1949 أي أربع سنوات بعد انتفاضتي سطيف وقالمة، الحاكم الذي نصب نصبًا تذكاريًا كبير لذكرى الأمير عبد القادر بقرب من مدينة معسكر، بعد أربع سنوات من مجزرة سطيف، قالمة، خراطة 1945.ويستنتج بيار دوم أنه المعرض هو عمل دعائي رائع يفرغ كل المعاني السياسية من المنظومة الاستعمارية.
هنا يعلّق الكاتب الفرنسي: "بدل من إدانة الجرائم التي ارتكبتها فرنسا على الشعب الجزائري منذ قرن، يقترح المعرض تاريخًا يهدف إلى تهدئة المجتمعات".
يَختتم دوم أن اقتباس المعرض يعكس الحالة الذهنية لإيمانويل ماكرون الذي يعمل على بناء ذاكرة مشتركة وسليمة، مشيرًا في بداية المقال أن وراء الجمال الرسمي للمعرض، تتخفى الرؤية الاستعمارية للجزائر الطيبة المتمردة على عكس" الفلاڨة السيئين" الذين أشعلوا الثورة سنة 1954.
يحاول الكاتب بيار دوم وكثير من المؤرخيت الفرنسيين مواجهة التاريخ الكولونيالي الذي يمجد الاستعمار بدل الاعتراف بالجرائم
وعلى العموم، يحاول كثير من المؤرخين من بين هؤلاء بيار دوم مواجهة التاريخ الكولونيالي الذي يفرض قراءة الهيمنة والتمجيد وإبراز الرسائل الإنسانية للاستعمار بدل الاعتراف بالجريمة، والمؤسف أن الكثير من الجزائريين لا يزالون ضحايا مغالطات وتأويلات التاريخ الاستعماري.