ثمّة تجاربُ فنّية وأدبيّة يُحسّ الواحد معها، أنّها ثمرة لرغبة الطّبيعة نفسِها في التّعبير عن نفسها من خلالها. فتصبح ضميرَ المرحلة وصوتَها وسفيرَها، رغم كلّ الإكراهات والأشواك، التي اعترضت/ تعترض مسارها، إذ لا يخلو مسار موهبةٍ حقيقيةٍ من أشواك حقيقية.
لقد أثبت تاريخ الفنّ أنّه، مقابل ولادة موهبةٍ من هذا النّوع، تولد عشرات المواهب الفقاعيّة
لقد أثبت تاريخ الفنّ أنّه، مقابل ولادة موهبةٍ من هذا النّوع، تولد عشرات المواهب الفقاعيّة، التّي تستفيد من هيمنة منظومةٍ سياسيّةٍ وإعلاميّةٍ وثقافيّةٍ تقتات على تشجيع الفقاعات، فتكون الموهبة الحقيقيّة في مهبّ الإقصاء والتّهميش والتّهجير والتّشويه والتّشويش والتّفقير والتّيئيس، وقد يصل الأمر، معها، إلى التّصفية الجسديّة. لكنّها تبقى عصيّة على الموت، لأنّها تمثّل صوتَ الحياة.
اقرأ/ي أيضًا: هشام قاوة.. الموسطاش يرسم الحراكَ الشعبي بألوان الـ"بوب آرت"
ويحيلنا هذا المعطى إلى تجارب المغنّين الشّباب، الذّي تألّقوا في برنامج "ألحان وشباب"، بعد عودته إلى شاشات التّلفزيون الجزائريّ، فتلقّوا تكوينًا حقيقيًّا في الغناء والأداء والموسيقى، لكنّهم سرعان ما انطفئوا، ووقعوا نهبًا للبطالة الفنّيّة، في مقابل استحواذ شباب العلب اللّيليّة، الذّين بلا تكوين ولا بعد عائليّ في أغانيهم، على المشهد بكلّ تجلّياته، حتّى أنّ أغانيهم باتت تبثّ في القنوات الرّسميّة وتستدعى في التظاهرات والمهرجانات العائليّة.
أكتب هذا، وفي ذهني تجربة الشّابّ حسني شقرون المغتال في أواخر شهر أيلول/سبتمبر من عام 1994. شابّ جزائريّ بسيط منحدر من بيئةٍ بسيطةٍ، في زمنٍ كان الموت فيه هو الحاكم الفعليّ ليوميّات البلاد والعباد، حيث كان الجزائريّ، إذا خرج من بيته، لا يدري إن كان سيعود إليه، وإذا دخله، فلا يدري إن كان سيخرج منه حيًّا. ولم تكن الهجرة غير النّظاميّة، يومها، متاحة مثل اليوم، فلم يكن أمام الشّابّ الجزائريّ إلا صوت الشّاب حسني.
كان يُغنّي للحياة ليقتل الموت، وللحبّ ليخرس الأحقاد، وللأمل ليقضي على اليأس، وهذا ما يُفسّر كثرة أغانيه وألبوماته، إذ كانت تلك الكثرة استجابةً لحاجة الشابّ الجزائريّ إلى أن ينسى واقعه القاتل، فقد كان السّؤالان اليوميان المهيمنان وقتها: كم قتلوا اليوم؟ وهل من جديد لشّاب حسني؟
أزعجت هذه السّلطة المعنويّة للفتى حسني شقرون عرّابي الموت، فاستعملوا معه الفعل الوحيد، الذي يُتقنونه ويُؤمنون به: القتل، فانتصرت له الحياة مثلما انتصر لها، إذ لا تزال أغانيه تردّد من طرف الشّباب الذّين عايشوه، بالحرارة نفسها التّي يردّدها الشّباب، الذّين ولدوا بعد اغتياله.
كأنّنا نسينا تلك المرحلة. واقترفنا جحودًا يدلّ على لؤمنا الجماعيّ، في حقّ من واجه الإرهاب بالسّلاح والفنّ. حتّى أنّنا دفعنا معطوبي ومجنّدي تلك المرحلة إلى الخروج إلى الشّارع رافعين أعضاءهم المبتورة ليطالبوا بحقوقهم. وها هي ذكرى اغتيال الشّاب حسني تمرّ مرور اللّئام، وكأنّه لم يكن ولم يُغنِّ ولم يرافق أجيالًا.
مضى ربع قرن على اغتيال الشّاب حسني، فبقي مشعًّا من قبره، أكثر من "وكالة الإشعاع الثقافيّ"
مضى ربع قرن على اغتيال الشّاب حسني، فبقي مشعًّا من قبره، أكثر من "وكالة الإشعاع الثقافيّ" التّي تحوز فيلّا تاريخيّة فارهة بالجزائر العاصمة، وبميزانية تكاد تساوي ميزانيّة دولة أفريقيّة. فأيّهما الميّت؟
اقرأ/ي أيضًا:
"عبد القادر يا بوعلام".. قصيدة صوفية أوصلت الراي إلى العالمية