25-نوفمبر-2019

موفق قات/ سوريا

السيناريوهات المفسّرة للوضع الانتخابي في الجزائر اليوم، تتسلّق الفرضيات وصولًا إلى نظريات تتشابه تاريخيًا مع أحداث سابقة. فالحركة المتوازنة للعُلب السوداء داخل دواليب النظام، تجعلنا نعيد التفكير في تأثيرات الحراك الشعبي على البنية السلطوية لهذا النظام في عمقه.

يقول مالك بن نبي: "إن الأفكار التي يخونها أصحابها تنتقم لنفسها"

عندما وصف القانوني الفرنسي موريس دو فيرجي النظام الجزائري بالنظام "الرئاساوي"، لم يكن يقصد حكم الرئيس بوتفليقة، بل تعدّى ذلك إلى صناعة واجهة النظام وتحريكها كعرائس المسرح. حرفة صناعة الرؤساء -التي قيل إّنها ماتت مؤخرًا- هي التي كانت تصنع شخصًا يُخفي وراء سلطاته وصلاحياته، مشاهد مروّعة لنهب البلاد وغياب العدالة وتقسيم الثروات بين العائلات المسيطرة على الاقتصاد الوطني.

اقرأ/ي أيضًا: معركة السّلطة لأجل البقاء.. كلّ شيء جائز

الوضع الآن أخطر مما مضى، إذ إنه باستمرار الحراك في الجمعات وأيام الثلاثاء وأيام أخرى متفرّقة كالاحتجاجات الليلة الأخيرة، يؤكّد لنا أن النظام فقد مصداقيته تمامًا وأنه لم يفلح في الإتيان بوجهٍ يتّفق عليه الشعب، لينتهي الأمر إلى مترشحين يتباكون في الزوايا ويصلّون في الطرقات.

القصّة المتداولة عن العجائز ومدرّبي التنمية البشرية، عن المنقّب الذي يحفر يومًا كاملًا ويعود خائبًا فاشلًا مهزومًا، ولو أنه حفر لدقيقة أخرى لوجد الذهب، هذه القّصة يجب أن تُروى اليوم على مسامع الحراك في كلّ الولايات، ويجب أن تعلن في القنوات التلفزيونية، وعلى الجميع أن يخرجوا من جدران الفايسبوك إلى جدران الواقع الذي لم يكن بحاجة إلى صفة المواطنة فينا كما يحتاجها اليوم.

يقول مالك بن نبي: "الأفكار التي يخونها أصحابها.. تنتقم لنفسها". وهذا أكثر ما يتربّص بالحراك، لكن لننقد الحراك ولنكن منصفين لأنفسنا.

المشكلة الأبرز في التنظير لهذه الأزمة هي مشكلة النخبة، وكما كانت في جميع المراحل التاريخية في التحوّلات الديمقراطية والحضارية للدول الكبرى، فإن خطأ النخبة هو احتكار العلوم. فنجد مثلًا مدارس الفلسفة الكلاسيكية رغم دحضها لنظريات أقدم منها، بقيت في المجال الكلاسيكي الأفلاطوني، بينما عندما حمل غوتيه وغرامشي الفلسفة إلى الشارع وأشرك الناس فيها أو ما يسمى "العوام"، وتناول شؤونَ الشعب الأفراد والجماعات، هنا، تحوّلت الفلسفة إلى ما نراه اليوم.

لهذا فعلى النخبة المُنظّرة أن تنزل إلى الشارع وتنقده ليس من البريد المركزي فقط، بل من أكثر البقاع تجاهلًا في الوطن. على هذه النخبة أن تنشر دراساتها السيميولوجية لخطابات المرشّحين علنًا وتُشرك الناس في تلك التحليلات النقدية.

عندما نشاهد الحملة الانتخابية "الكاريكاتورية"، وندرس ما يحدث سيميولوجيًا سنلاحظ بمبدأ المقارنة أن معظم المترشحين يحاولون جاهدين إتقان دور ما، وكأن أحدهم يُملي على هؤلاء طرقًا شعبوية للتأثير في الجماهير، لنجرّب مثلًا فكرة البكاء. أول من سبق المرشّحين إليها هو مرشّح "الأرندي" عز الدين ميهوبي في الزاوية الدينية، تأثرًا بوعظ الإمام، وهو يجسّد شخصية الحاكم العادل الذي يخشى أن تعثر بغلة في العراق. تلاه مباشرة علي بن فليس في مشهد مغاير تمامًا لمبدأ البكاء، إذ تمّ استغلال طفلة وتحفيظها نصًا شعريًا يمجّد أيام بن فليس النضالية ويصنفه في خانة المظلوم، لتنساب الدموع بتعبيرات وجه حزينة في مشهد يمزج بين "البوليودية" وتطبيق الأوامر.

 ختم مشهد البكائيات، نجم الساحة بلا منازع عبد القادر بن قرينة، الذي اختار أن يكون بكاؤه لسبب منطقي عاطفيًا ومتصلًا ببعض التدين و"النوفمبرية"، إذ تأثّر المترشح بتلاوة آيات من الذكر الحكيم، لتتهاطل دموعه وتعلو شهقاته في مشهدٍ مهيب.

كان باديًا أن مرشّحي "البكائيات" ينفّذون خطة واحدة، وإن كان عبد العزيز بلعيد وهو أصغرهم سنًا وآخرهم عهدًا بدواليب السلطة، متمسّكًا بمحاولاته المتكرّرة لدخول قصر المرادية، فإن الرجل الذي أشعل له القايد صالح سيجارة في مناسبة سابقة، حين كانا في حكومة واحدة، تخلّف عن بعض الولايات ولم يلتزم بالزيارات اليومية في برنامج حملته.

عبد المجيد تبون كان يخطب بعفوية غريبة. نعم، نتّفق أن في كلامه الكثير من الشعبوية قصد الفوز بأصوات الناخبين، لكنه أيضًا يتحدّث بمستوى أعلى من الآخرين.. أعلى حتّى من بن فليس. إذ كان يكرّر كلما وقف على المنبر جملته "أنا نعرف النظام مليح".

من سيمنح الشرعية لتبون عندما يمتنع الشعب عن التصويت؟

هل نتيجة هذا التحليل السيميولوجي البسيط، أن بن فليس وميهوبي وبن قرينة يطيعون أوامر علب سوداء جديدة، تتقن هي الأخرى حرفة صناعة الرؤساء؟ وهل يعني ذلك أن بلعيد يركض في حلقة مفرغة؟ وتبون هو المتيقّن من فوزه في آخر الأمر؟  ومن سيمنح الشرعية لتبون عندما يمتنع الشعب عن التصويت؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

عصر بوتفليقة.. من تقديس الوطن إلى تقديس الفرد

أجنحة الحكم في الجزائر.. تناقضات مقصودة