10-ديسمبر-2023
خالد ميلودي

خالد ميلودي (الصورة: كنال+)

في غرفة مزيّنة بصور الكتّاب، يجلس نحو عشرة سجناء على شكل حلقة، وينصتون إلى ما يقوله الجزائري خالد ميلودي، عن تجربته في سجون فرنسا التي تعدّت 29 سنة.

قصّة "شاعر الزنزانة" باتت ملهمة لكثير من المساجين الذين يلتقون خالد ميلودي في ورش وجلسات تساعدهم على الاندماج

درَجَ الميلودي على التردد إلى السجن المخصص للحبس الاحتياطي في كوربا، بالقرب من ليون، مع أنه لم يمكث يومًا وراء قضبان زنزاناته. ورغم استعادته حريته منذ عام 2021، لا يزال هذا الرجل يتصرّف كالسجين.

ويروي ميلودي المولود في الجزائر خلال ثورة التحرير، لوكالة "فرانس برس"، أنه "عندما كنت صغيرًا، كنت غاضبًا ومستاءً، وكانت لدي غريزة بقاء قوية". وأدى هذا المزيج إلى ما يصفه بـ"أول خروج عن الطريق"، إذ حُكم عليه عندما كان في التاسعة عشرة بالحبس لمدة عام بعد شجار.

وفي سجن فلوري ميروجي، تصادَقَ مع اللصوص الأكبر منه سنًا الذين تبنّوه. ويقول: "في ظل النقص العاطفيّ لديّ، كنت أبحث عن عائلة، واعتقدتُ أنني وجدت واحدة".

عند إطلاق سراحه، التقى رفاق السجن السابقين في إحدى الحانات، فبدأت "مرحلة ثانية من حياته، حافلة بأعمال السطو، وبذهاب وإياب مستمرين إلى السجن ومنه"، وبقيت الحال على هذا المنوال سنوات عدة.

عنف عائلي

يتذكر خالد ميلودي، 63 عامًا، وهو أب لستة أطفال، أيام هجرته رفقة عائلته إلى فرنسا عام 1965، ونزولهم في ريفسالت، وهي بلدة صغيرة في جبال البرانس الشرقية، أنّ "الفرح كان منظمًا في عائلتي، والفكاهة ممنوعة."

ويقول في تصريحات سابقة بأنّ "والدي، جندي محترف، يفرض قواعد صارمة ويعاقب أطفاله بشدة. تلقيت ضربًا منه لسنوات."

وهنا يعود خالد إلى الليالي الطويلة التي قضاها محبوسًا في القبو، ليصفها: "لأبسط الأشياء، كان والدي يرميني في القبو ويضربني. كان جسدي المصاب بالكدمات يتدحرج مثل لعبة مفككة على الخرسانة."

يكمل، بمرارة، بأنّه "لم أكن أتذكّر من صغري، سوى تضحيات أمي التي كانت تقوم بكل الأعمال المنزلية. لقد استنفدت نفسها في الغسيل والمطبخ دون أي اعتراف."

قضى الفتى المراهق أغلب حياته بين شوارع باريس وأزقتها، هربًا من العنف العائلي، إذ يروي أنّه "بعد عدة شكاوي من الجيران حول إساءة معاملة الأطفال، تم وضعي في أسرة حاضنة إثر تدخل المساعدة الاجتماعي للأطفال."

شاعر الزنزانة

في عام 2007، دانه القضاء بمهاجمة مركبة لنقل البضائع في باريس وبعملية سطو تخللها إطلاق نار على عناصر شرطة في روان. وحُكِم عليه بالسجن 30 عاماً، أي أنه كان ليمضي بقية حياته وراء القضبان إذ كان في السابعة والأربعين.

وصُنّف ميلودي من السجناء الذين ينبغي إخضاعهم لرقابة مشددة، وأودِع أقسامًا من السجن مخصصة لهذه الفئة، وراودته فكرة الانتحار، لكنّ الغلبة في نهاية المطاف كانت للرغبة في الحياة، واتجه إلى الكتابة التي لم يسبق له أن مارسها.

ويروي: "أنا الذي لم أكن راجعتُ ضميري يومًا بعد أن بكيتُ كثيرًا، بدأتُ بكتابة قصائد عن سيرتي الذاتية".

وفي أبيات قصائده الموزونة والمقفاة، أجرى خالد تشريحًا لما عاناه في بيته من "وحشية" والده.

ميلودي

كذلك أجرى بالشعر نقدًا ذاتيًا لما اتخذه من "خيارات سيئة" ولما عاناه في السجن، وشيئًا فشيئًا، شعر بأنه يتعافى.

ويشدد على أنه لا يعتبر نفسه "ضحية"، بل "شخصًا حصلت له معجزة". ويضيف: "لهذا السبب أستطيع العودة إلى السجن: لقد تحررتُ من غضبي".

كما اكتشف ابن مدينة عين الدفلى، خلال الأعوام التسع والعشرين التي أمضاها وراء قضبان السجون الفرنسية لتورطه في السرقة، أن الشِعر يمكن أن يكون خلاصًا له.

خشبة الخلاص

وبعد إطلاق سراحه في كانون الثاني/جانفي 2021، انتقل ميلودي إلى باريس. وعمِل لمدة عامين كسائق توصيل، وروى حياته في كتاب بعنوان "ألوان الظل" صدر عام 2022.

ويتلو، اليوم، قصائده على خشبة المسرح مع عزف مُرافِق على البيانو، ويأمل في أن ينشر قريبًا ديوانًا شعريًا بعنوان "الكلمات تحت الجلد".

ورغم أنّه يتمتع بالإفراج المشروط حتى أيلول/سبتمبر 2025، وهو ممنوع من مغادرة الأراضي الفرنسية، يدير "شاعر السجون" (كما يُلقب) ورش عمل للسجناء والشباب الذين يواجهون صعوبات أو تلاميذ مدارس ثانوية لمساعدتهم في "العثور على خشبة خلاصهم."

وحول هذه الجلسات، تقول سجينة تبلغ 38 عامًا، جاءت للاستماع إلى قصة خالد ميلودي، في كوربا "الكتابة هي ما ساعده، أما أنا، فالقراءة هي التي تساعدني على تجاوز أوقات الحبس".

خالد

تواصل السجينة في حديثها لـ"فرانس برس" أنّه "وجدت في الكُتب طوق نجاة، مع أنني لم أكن أوليها أهمية في السابق"، لتشير إبى أنّها "ما عادت أبرج مكتبة السجن."

ويتوجه سجين آخر إلى خالد ميلودي بالقول: "أكنّ لك احترامًا كبيرًا إنها خطوة كبيرة بالنسبة لسجين سابق أن يعود إلى السجن". ويستنتج أن السجين السابق "سامح نفسه ويريد الآن إعطاء المفاتيح للآخرين".

ويعلّق أحدهم واصفًا المهاجر الجزائري بأنه "واثق بنفسه"، إذ يدرك أن "مسيرته المضطربة" توفّر له "صدقية" تسهّل له التأثير في المستمعين إليه.