24-يناير-2020

سمعان خوام/سوريا

يعود الروائي بشير مفتي مرّة أخرى إلى "الحرب الأهلية" الجزائرية في تسعينيات القرن الماضي، ليستلهم أحداث رواية جديدة، اختلطت فيها الأحداث والمصائر وأخذت عنوانين "اختلاط المواسم" و"وليمة القتل الكبرى"، وتحوّل فيها القتل من حادث مأساوي إلى "لذة وجودية".

ترتبط شخصية "القاتل" بشخصية روديون راسكولنيكوف في رواية "الجريمة والعقاب"

الرواية صدرت مؤخّرًا في طبعة مشتركة بين "منشورات ضفاف" اللبنانية، و"منشورات الاختلاف" الجزائرية، وتنتهي بقتل معظم أبطالها، إلا "صادق سعيد"، الذي كان مصيره الجنون، وهو موت آخر على أيّ حال، والقاتل الذي راح يبحث عن ضحايا جدد منحتهم إيّاه النهاية المفتوحة.

اقرأ/ي أيضًا: عمار بلحسن ومفهوم المثقّف الغرامشي

ولئن كان القتل كابوسًا في روايات بشير مفتي السابقة، التي تناولت تلك الحقبة الدموية من تاريخ الجزائر، فقد أصبح هواية، وتحوّلت بعدها إلى حرفة يؤدّيها صاحبها بكثير من المتعة والتفنّن، منذ أن اكتشفها "صدفة" في طفولته، عندما قتل قطةً بطريقة بشعة، وعوض أن يشعر بتأنيب ضمير، غمرته سعادة غريبة، جعلته لاحقًا ينقطع عن دراسة الحقوق ليلتحق بـ "فرقة الموت".

وينتظر القارئ توالي صفحات الراوية، التي اقتربت من الـ 250 صفحة، ليتعرّف أكثر على شخصية البطل الرئيسي، لكن الأحداث تنتهي دون أن نعرف حتى اسمه الحقيقي، ليكتفي السارد بمناداته بـ"القاتل"، الذي يحافظ على تلك الصفة منذ الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة.

وبضمير المتكلّم تتوالي الأحداث، إلى درجة يعتقد من خلالها القارئ أن الرواية ستنتهي على خط واحد، وفق وجهة نظر واحدة، لكن فجأة يختلط كل شيء، ونكتشف روّاة آخرين، لكن بوجهات نظر تخدم الفكرة الرئيسية في النهاية التي تتلخص في "عبث الحياة" و"عبث الموت"، وكأن تلك الشخصيات هي من "اختراع" القارئ نفسه، ليبرّر ما قام به من جرائم قتل بشعة دون أن يشعر إلا بلذة غامضة في كل مرّة.

وترتبط شخصية "القاتل" بشخصية روديون راسكولنيكوف في رواية "الجريمة والعقاب" للروسي فيودور دوستويفسكي، مع فارق أساسي هو أن القلق والتوتر الذي صاحب شخصية دوستويفسكي، يغيب تمامًا مع شخصية مفتي.

ولا يتردّد السارد في الإشارة إلى بطل "الجريمة والعقاب" في أكثر من موضع، وكأن "القاتل" بدأ من حيث انتهى راسكولنيكوف، وتحوّلت حيرته وأسئلته المدمّرة تلك إلى يقين، يجعل القتل شيئًا روتينيًا، بل متعة تتجاوز متعة الأكل والجنس.

وتتواطأ بقية شخصيات الرواية مع "فلسفة القاتل"، وكأنّها تبرّر له ما كان يقوم به دون أن يعرفه معظمهم، أو كأنّهم يسلّمون لهم مصائرهم واحدًا بعد آخر.

وإضافة إلى "الجريمة والعقاب"، بدا أنّ الشخصيات التي سيقت إلى مصيرها المحتوم، كأنّها حفظت مقولة تشارلز بوكوفسكي: "مبرّرة كلّ أشكال الموت، مبرّرة كل أشكال القتل، كل الموت، كل النفوق، لا شيء يذهب سدى، ولا حتى عنق ذبابة"، مع فارق جوهري، هو أن معظمهم اختار لعب دور الضحيّة عوضًا عن دور القاتل، الذي أُسند إلى شخص لم نعرف له اسمًا.

"القاتل" الذي اكتشفت تلك "اللذة" مبكرًا، منذ أن تفنّن في القضاء على قطة، وجد "الحرب الأهلية" الجزائرية في تسعينيات القرن الماضي، فرصة ذهبية لممارسة هوايته، وفي سبيلها تخلّى عن دراسة الحقوق، وقبلها وجد الجوّ العائلي مناسبًا لاكتساب شخصية "عدمية".

وبعد "وليمة القتل الكبرى" تلك، يكتشف هواية أخرى، وهي الكتابة، وربما ما جاء في هذا المتن هو رواية جاءت على لسانه، لولا الأصوات الأخرى التي ظهرت بعد ذلك، ولا ندري في النهاية إن كانت من صنع خياله لتبرير ذلك المسلك، أم أن الكاتب هو شخص آخر غير القاتل، في لعبة تشبه لعبة المرايا المتعاكسة، التي تنفتح على اللانهائي، لكنها في النهاية قد تكون انعكاسًا لشيء كاذب.

كأن كتابة الرواية في النهاية، هي نوع آخر من "القتل اللذيذ" يكون القاتل قد اكتشفه، لأن الهواية الأصلية لم تشف غليله، وكانت ممارستها تحتاج إلى شروط لا تتوفّر في كثير من الظروف.

القتل الذي كان شيئًا مرعبا في روايات بشير مفتي السابقة، تحوّل إلى نقيض ذلك، في محاولة جديدة لإعادة قراءة ما حدث، و"تبرير" تلك الفضائع، التي تفنّن في بعضها، أعضاء من "فرقة الموت" كما جاء في هذه الرواية.

إن مبرّر حرصه على مواصلة عمله العدمي إلى ما لانهاية هو شعوره بالسعادة

وكأن الكاتب اقتبس من فلسفة ألبير كامو العدمية، عند تناوله لأسطورة سيزيف قائلًا بما معناه، إن مبرّر حرصه على مواصلة عمله العدمي إلى ما لانهاية هو شعوره بالسعادة، و"القتل بصفته لذّة"، ما هو إلا تبريرًا للجرائم التي تحدث والتي ستحدث.

 

اقرأ/ي أيضًا:

محمّد الطّاهر الزّاوي.. التّمثيل المسرحيّ بصفته حياةً موازية

مقال كمال داود يُثير الجدل.. هل هو طعنة في ظهر الحراك الشعبي؟