25-مارس-2024
زلابية

في رمضان تتحول مدينة المعذر، الواقعة على بعد 23 كلم شمال شرق مدينة باتنة، إلى مقصد للزوار بحثًا عن الحليب واللبن، فقد اشتهرت هذه المنطقة بتربية الأبقار منذ كان اسمها تاحمامت، وعين لقصر، وربما منذ عهد الرومان الذين أطلقوا عليها اسم كازاي.

يقول أحد الزبائن لـ "الترا جزائر": الأمر ممتع لأنه يمنحك حرية المشاركة في صناعة زلابيتك وبالذوق الذي تريده أنت، لا ما يريده تاجر المكسرات أو صانع الزلابية

 لكن المعذر، مدينة اللقالق، صارت هذه سنوات، قبلة للصائمين، الذين يتهافتون عليها من عدة ولايات، لا من أجل التمتع بخضارها الممتد بين سهل جرمة وجبل بوعريف، أو بنظافتها الأسطورية، بل ابتغاء زلابية "باسطوس" الشهيرة، التي يحضرها الزبون بنفسه، ويختار مكوناتها حسب ذوقه.

هرّس وحدك

يقع محل "باسطوس"وسط مدينة المعذر الكولونيالي غير بعيد عن مسجدها العتيق، وعن ساحتها الرئيسة حيث مشويات شتيليكي. ويشهد اكتظاظًا كل يوم بسبب تخصصه في زلابية "سالف سرفيس"، فهو ملاصق لمحل بقالة تعرض في حاويات بلاستيكية صغيرة شتى أنواع المكسرات، مثل الكاوكاو والبندق والفستق و الأكاجو، و الجوز و اللوز، و حتى -الزقوقو- بذور الصنوبر، و البيض و الفانيلا.

زلابية باسطوس

وأمام تلك الحاويات طاولة مصنوعة من شجرة مقطوعة وفوقها مثاقيل ميزان، تستخدم في تحضير خلطة مكسرات الزلابية. يشرح عامل بالمحل، وهو طالب جامعي جاء لمساعدة صديقه، الطريقة قائلًا: "يشتري منا الزبون ما يريد من مكسرات، وطبعًا فبإمكانه أن يشتري نوعًا واحدًا، أو جميعها، أو بعضها، نقوم بوزن الكمية المقتناة، ليدفع ثمنها، نقوم بوضع تلك المكسرات في كيس ونسلمه له، ليتولى هو طحنه بنفسه بواسطة مثقال ميزان أو عيار ميزان، مثلما ما ترى، الجميع يهرسون، فالشعار هنا – يضيف ضاحكًا: هرّس وحدك أو خليه يهرّس ".

اقتربت من شبان كانوا مزهوين بعملية طحن مكسرات اقتنوها، فقال أحدهم: " سنصنع زلابية مشكلة مثل سلطة الفواكه"، فسألته عن رأيه في هذه الطريقة فرد منتعشًا: " سمعت عن زلابية باسطوس والمعذر، لكنها أول مرة أجربها، حقًا الأمر ممتع لأنه يمنحك حرية المشاركة في صناعة زلابيتك وبالذوق الذي تريده أنت، لا ما يريده تاجر المكسرات أو صانع الزلابية".

زلابية باسطوس

خلطة بهلول

يقوم كل زبون بدفع مسحوقه من المكسرات مع البيض في حال رغب في ذلك، بمقادير معلومة ببيضة لكل نصف كيلوغرام، لقُلاة الزلابية الذين يضعونها في إناء معلم لكل زبون، ثم يلجئون إلى خلطها مع عجينة الزلابية العادية حتى تصير جارية متشبعة بدقاق ونثار المكسرات المسحوقة، ليقوم سليم سوالمية، 61 سنة، الذي توارث المهنة عن والده محمود سوالمية، المكنى باسطوس، رفقة معاونيه بصبها في المقالي الزيتية وتجفيفها وتعسيلها قبل تقديمها إلى الزبائن.

يقول سليم لـ "الترا جزائر" إن "والدي افتتح محل الزلابية هذا في العام 1954، وقد أطلق عليه سكان المدينة كنية باسطوس، لأنه تخصص في بيع سجائر الباسطوس، قبل أن يصبح زلابجيًا".

أمّا أنا فحاصل على شهادة مهندس دولة من الجامعة لكني فضلت الاستمرار في مهنة والدي الذي توفي سنة 2012، بعدما تعلمت منه أسرار الصنعة منذ مرحلة طفولتي. كان من الصعب عليّ أن يتوقف محل والدي، لذا قررت أن أستمر فيه ليستمر محله ".

زلابية باسطوس

بحثا عن تاريخ نشأة طريقة صناعة الزلابية بالمكسرات في المعذر، يجيب سليم وهو يدوّر العجينة بخلاط خشبي: "صحيح أن والدي باسطوس هو من بدأها في الثمانينيات من القرن الماضي، أي أنها ولدت هنا منذ أكثر من أربعين سنة، لكن الحقيقية والصراحة هي أن مقاولًا من عائلة بهلول هو من ابتكرها".

وأردف قائلًا: "كان صديقًا لوالدي، كان يأتي إليه في شاحنة تقل عمالًا كثيرين، ويطلب منه إناء كبيرًا يكسر فيه دزينة بيض ثم يقوم برحي ما يتوفر لديه من مكسرات، ثم يخلطها، ويطلب من والدي أن يقليها مع عجينة الزلابية، ثم يقدمها لعماله الذين كانوا يشتغلون عنده، كان كريما معهم لأبعد الحدود، ولهذا كان يقول إنهم يستأهلون زلابية ملكية محشوة بالمكسرات، حتى تكون لهم طاقة إضافية، ولأشكرهم على جهدهم المبذول في ورشات كان بعضها في الصحراء".

هكذا تلقف "باسطوس" الفكرة من صديقه المقاول محمود بهلول، ثم طبقها بنفسه، فبدأت تلك الزلابية تشتهر بالمكونات المتوفرة في السوق، يوضح سليم الفكرة قائلًا: " طبعًا في تلك الفترة لم تكن أنواع من تلك المكسرات مثل الفستق أو البندق متوفرة، في زمن الاشتراكية وأسواق الفلاح كان ثمة ندرة في الكماليات، لذا كان يستعمل الزقوقو و الكاوكاو، لكن و منذ الانفتاح على التجارة الخارجية وتطور الإنتاج الفلاحي صارت كل أنواع المكسرات متوفرة، وهكذا صار يضاف في كل مرة نوع جديد حتى اكتملت الوصفة. صحيح أن أسعار المكسرات مرتفعة، لكن ليس مطلوبًا أن تستعمل مائة غرام، بل حفنة فقط من المكسرات التي تريد، لتحصل على النكهة والبنّة".

زلابية باسطوس

شحنة إلى روسيا

عدت إلى بائع المكسرات في المحل المجاور لأسأله عن الأثمان فأجاب: "الفستق المقشر بـ 5000 دينار جزائري، اللوز 2000 دج، البندق بـ 2600 دج، الجوز بـ 1200 دج، والأكاجو بـ 2400 دج. هذه أسعار السوق لكن ليس مطلوبًا من الزبون أن يثقل على نفسه، يمكنه أن يحصل على خلطة بـ 300 دج عن كل أنواع المكسرات لأن الغرض أن تأكل زلابية بنكهة المكسرات، لا مكسرات بطعم الزلابية، حصة صغيرة تكفي. وبما أن سعر الزلابية هو 300 دج للكيلوغرام، يمكنك بـ 600 دج أن تحصل على زلابية مغذية لأنها تحتوي بيضًا أي البروتين، ومكسرات غنية بالأملاح والدهون الصحية".

زلابية باسطوس

سألت شابين قررا اقتناء مكسرات بـ 600 دج، لاستعمالها في كيلوغرام ونصف من الزلابية، لكل واحد منهما، فأكد أحدهما ما يلي:"علاوة على أنك من تهرّس مكسراتك، يمكنك أن تعجن الخلطة بمفردك، فيما يكتفي الزلابجي بالقلي فقط. أمّا من حيث الذوق فهو ممتاز، وطبعًا ستكلفنا ثلاثة كيلوغرامات من الزلابية مع المكسرات مبلغ 1500 دج، أي 750 دج للواحد، والسعر مقبول جدًا، نظرًا لأنها زلابية محسنة على وزن الخبز المحسن، كما أني سأهدي كيلوغراما لشقيقتي وزوجها، لأنها تعشق هذه الزلابية، فأفضل ما يمكن أن نهديه من باب الإكرامية الرمضانية هي هذه الحلوى التقليدية".

الازدحام الكبير أمام المحل للحصول على كيلوغرام منها لا يخلو من نرفزة مرتبطة بـ"حشيشة رمضان"، فبين اللحظة وأخرى، يفجر أحدهم غضبه جراء عدم احترام الدور فيقابله تنمر الساخرين، يلطف سليم الأجواء وهو يقول لـ "الترا الجزائر" ضاحكًا: "أقدر غضبهم، فبعضهم يأتون من مناطق بعيدة، و من ولايات شرقية مجاورة مثل خنشلة وبسكرة وقسنطينة وسطيف وأم البواقي و حتى من قالمة. البارحة، فقط، جاءني شخص وطلب مني أن أحضر له عدة كيلوغرامات كي يأخذها معه في طرود إلى روسيا. يبدو أنه طالب يدرس هناك، ويريد أن يهديها لزملائه الجزائريين أو الروس".

لم يعد بالمعذر محل واحد فقط يتخصص في زلابية المكسرات، بل قلدت عدة محلات طريقة "باسطوس"

لم يعد بالمعذر محل واحد فقط يتخصص في زلابية المكسرات، بل قلدت عدة محلات طريقة "باسطوس"، تماشيًا مع رغبات وإقبال الزبائن عليها منذ عقود طويلة، لكنها اشتهرت في السنوات الأخيرة بفضل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، هذا على الرغم من أن سليم يوضح نقطة غاية في الأهمية: "لا علاقة لي تجاريًا أو ربحيا مع صاحب محل المكسرات، فهو يبيع لصالحه، وأنا أعد الزلابية بسعرها المعهود، هناك تنافع فيما بيننا من حيث الزبائن، ولا وجود لأرباح مادية نقتسمها معًا. فأهم ربح يمكن أن أحققه هو فرحة الزبائن بحصولهم على هذه الزلابية التي لا تزال تحمل رائحة واسم وبركة والدي، خاصة في هذا الشهر العظيم المبارك".

 

 

دلالات: